قال: " وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون "، يعنى العزلة ومجانبة الناس، وطول الصمت، وملازمة الخلوة، ونحو ذلك مما هو شعار القوم.
قال: " وصحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الأعلى "، هذا مما يقوله أصحاب الحكمة من تعلق النفوس المجردة بمبادئها من العقول المفارقة، فمن كان أزكى كان تعلقه بها أتم.
ثم قال: " أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه "، لا شبهة أن بالوصول يستحق الانسان أن يسمى خليفة الله في أرضه، وهو المعنى بقوله سبحانه للملائكة (أنى جاعل في الأرض خليفة) (1)، وبقوله: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (2).
ثم قال: " آه آه شوقا إلى رؤيتهم؟ "، هو (عليه السلام) أحق الناس بأن يشتاق إلى رؤيتهم، لان الجنسية علة الضم، والشئ يشتاق إلى ما هو من سنخه وسوسته وطبيعته، ولما كان هو (عليه السلام) شيخ العارفين وسيدهم، لا جرم. اشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه، وإن كان كل واحد من الناس دون طبقته.
ثم قال لكميل: " انصرف إذا شئت "، وهذه الكلمة من محاسن الآداب، ومن لطائف الكلم، لأنه لم يقتصر على أن قال " انصرف " كيلا يكون أمرا وحكما بالانصراف لا محالة، فيكون فيه نوع علو عليه، فاتبع ذلك بقوله: " إذا شئت " ليخرجه من ذل الحكم وقهر الامر إلى عزة المشيئة والاختيار.