وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل اسلامه مذكورا، ورئيسا معروفا، يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الاشعار، ويتذاكرون الاخبار: ويشربون الخمر، وقد كان سمع دلائل النبوة وحجج الرسل، وسافر إلى البلدان، ووصلت إليه الاخبار، وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر والاسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وكل ذلك عون لأبي بكر على الاسلام، ومسهل إليه سبيله، ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وآله (اتيت بيت المقدس) سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه، فصدقه وبان له امره، وخفت مؤنته لما تقدم من معرفته بالبيت، فخرج إذا اسلام أبى بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب وفى ذلك رويتم عنه صلى الله عليه وآله أنه قال ما دعوت أحدا إلى الاسلام الا وكان له تردد ونبوة، الا ما كان من أبى بكر، فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والاسلام، فأين هذا واسلام من خلى وعقله، والجئ إلى نظره، مع صغر سنه، واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته، في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو فلجا إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر اسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته، وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان غذي به لصحة نظره، ولطافة فكره وغامض فهمه، فعظم استنباطه، ورجح فضله، وشرف قدر اسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا، وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شره حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا، واشغل هم الآخرة قلبه، ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره، وما سبيله في ذلك الا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي صلى الله عليه وآله كمنزلة هارون من موسى، وانه وإن لم يكن نبيا، فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا، ولمنهاجهم متبعا، وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام، فان
(٢٤٩)