يقول عليه السلام مخاطبا لمن في عصره من بقايا الصحابة ولغيرهم من التابعين، الذين لم يدركوا عصر رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله بعث محمدا، وهو أكرم الناس شيمة، وأنداهم يدا، وخيرهم طفلا، وأنجبهم كهلا، فصانه الله تعالى في أيام حياته عن أن يفتح عليه الدنيا، وأكرمه عن ذلك فلم تفتح عليكم البلاد، ولا درت عليكم الأموال، ولا أقبلت الدنيا نحوكم، وما دالت الدولة لكم إلا بعده، فتمكنتم من أكلها والتمتع بها، كما يتمكن الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها، وحلت لذاتها لكم، واستطبتم العيشة، ووجدتموها حلوة خضرة.
ثم ذكر أنهم صادفوها - يعنى الدنيا - وقد صعبت على من يليها ولاية حق، كما تستصعب الناقة على راكبها إذا كانت جائلة الخطام، ليس زمامها بممكن راكبها من نفسه، قلقة الوضين، لا يثبت هودجها تحت الراكب، حرامها سهل التناول على من يريده، كالسدر الذي خضد عنه شوكه، فصار ناعما أملس، وحلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه، وكونه صار مغمورا مستهلكا بالنسبة إليه، وهذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما من استبداد الخلفاء قبله دونه بالامر، وإنه كان الأولى والأحق.
* * * فإن قلت: إذا كانت الدنيا قلقة الوضين، جائلة الخطام، فهي صعبة الركوب، وهذا ضد قوله: " حرامها بمنزلة السدر المخضود "، لأنه من الأمثال المضروبة للسهولة!
قلت: فحوى كلامه أن الدنيا جمحت به عليه السلام، فألقته عن ظهرها بعد أن كان راكبا لها أو كالراكب لها لاستحقاقه ركوبها، وأنها صارت بعده كالناقة التي خلعت زمامها، أو أجالته فلا يتمكن راكبها من قبضه، واسترخى وضينها لشدة ما كان صدر عنها من النفار والتقحم، حتى أذرت راكبها، فصارت على حال لا يركبها إلا من هو موصوف بركوب غير طبيعي، لأنه ركب ما لا ينبغي أن يركب، فالذين ولوا أمرها ولوه