قال ابن خلكان: " حكى أخوه عز الدين أبو الحسن على أنه لما أقعد جاءهم رجل مغربي، والتزم أنه يداويه ويبرئه مما هو فيه، وأنه لا يأخذ أجرا إلا بعد برثه، فملنا إلى قوله، وأخذ في معاجلته بدهن صنعه، فظهرت ثمرة صنعته، ولانت رجلاه، وصار يتمكن من مدهما، وأشرف على كمال البرء.
فقال لي: أعط هذا المغربي شيئا يرضيه واصرفه، فقلت له: لماذا وقد ظهر نجح معاناته؟ فقال: الأمر كما تقول، ولكني في راحة مما كنت فيه من صحبة هؤلاء القوم والالتزام بأخطارهم، وقد سكنت روحي إلى الانقطاع والدعة. وقد كنت بالأمس وأنا ما في أذل نفسي بالسعي إليهم، وها أنا اليوم قاعد في منزلي، فإذا طرأت لهم أمور ضرورية جاءني بأنفسهم لأخذ رأيي، وبين هذا وذاك كثير، ولم يكن سبب هذا إلا هذا المرض، فما أرى زواله ولا معالجته، ولم يبق من العمر إلا القليل، فدعني أعيش باقيه حرا سليما من الذل، وقد أخذت منه أوفر حظ. قال عز الدين: فقبلت قوله وصرفت الرجل بإحسان ".
وهكذا لزم الرجل بيته صابرا محتسبا، يغشاه الأكابر ويحفد إليه العلماء، يقبسون من علمه وينهلون من فيضه. وكان آجره الله قد أنشأ رباطا بقرية من قرى الموصل تسمى " قصر حرب " ووقف أملاكه عليه وعلى داره التي كان يسكنها بالموصل، ووقف داره على الصوفية.
قال ابن خلكان: " وبلغني أنه صنف هذه الكتب كلها في مدة العطلة، فإنه تفرغ لها، وكان عنده جماعة يعينونه عليها في الاختيار والكتابة ".
وفي يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة (606 ه) فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، ودفن برباطه بدرب دراج داخل البلد.
قال القطيفي: " ذكر لي أخوه أبو الحسن علي أنه رآه بعد موته أن نجاسة قد آذته. قال:
فاستقصيت وبحثت عن صحة هذه الرؤيا، فوجدت أحد الأهالي قد أطلق غنما له فوق سطح الصفة التي هو فيها مدفون، وقد كثر ما يخرج من أجوافها فوق ذلك الموضع، فأزالته ونظفته مما حصل فيه " رحمه الله وجزاء بما يجزي به العلماء المخلصين ".