الدين سنة (589 ه) (1) اتصل بخدمة الأتابك عز الدين مسعود بن مودود [وولي ديوان الإنشاء له] (2) إلى أن توفى عز الدين فاتصل بخدمة ولده نور الدين أرسلان شاه، فصار واحد دولته حقيقة، بحيث إن السلطان كان يقصد منزله في مهام نفسه، لأنه أقعد في آخر زمانه، فكانت الحركة تصعب عليه، فكان يجيئه بنفسه أو يرسل إليه بدر الدين لؤلؤ الذي هو اليوم أمير الموصل ".
وكان أبو السعادات ذا دين متين، فلم تبهره أضواء الحكم، ولم تثنه عما أخذ به نفسه من الدرس والتحصيل. وقد أراد نور الدين أن يستخلصه لنفسه، فعرض عليه الوزارة غير مره فرفضها، وهي منصب خطير تعشو إليه الأنظار وتعنو له الجباه.
قال ياقوت: " حدثني أخوه المذكور قال: حدثني أخي أبو السعادات قال: لقد ألزمني نور الدين بالوزارة غير مرة وأنا أستعفيه، حتى غضب منى وأمر بالتوكيل بي. قال: فجعلت أبكى، فبلغه ذلك فجاءني وأنا على تلك الحال، فقال لي: أبلغ الأمر إلى هذا؟ ما علمت أن رجلا ممن خلق الله يكره ما كرهت! فقلت: أنا يا مولانا رجل كبير، وقد خدمت العلم عمرى، واشتهر ذلك عنى في البلاد بأسرها، وأعلم أنني لو اجتهدت في إقامة العدل بغاية جهدي ما قدرت أودي حقه، ولو ظلم أكار (3) في ضيعة من أقصى أعمال السلطان لنسب ظلمه إلى، ورجعت أنت وغيرك باللأئمة على، والملك لا يستقيم إلا بالتسمح في العسف، وأخذ هذا الحق بالشدة، وأنا لا أقدر على ذلك. فأعفاه. وجاءنا إلى دارنا فخبرنا بالحال، فأما والده وأخوه فلاماه على الامتناع، فلم يؤثر اللوم عنده أسفا ".
وهكذا سارت حياة أبي السعادات بين عزوف عن الدنيا، وإقبال على العلم، ورغبة في المعرفة، واستكثار من الخير والبر، حتى عرض له مرض النقرس فأبطل حركة يديه ورجليه، بحيث صار يحمل في محفة. ولقد قابل رحمه الله هذه المحنة بقلب راض ونفس مطمئنة، ورأي فيها الفرصة للبعد عن ضوضاء الناس ولهوهم، والفراغ إلى الدرس والتصنيف.