فلما قدم جعفر بن محمد الصادق المدينة (1)، أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال لي يوما: إني رجل مطلوب (2)، ولي أوراد في كل ساعة، قم عني لا تشغلني عن وردي ورح إلى مالك! فاغتممت من ذلك وقلت: لو تفرس في خيرا لما فعل ذلك، فدخلت مسجد النبي (ص) وسلمت عليه، وصليت ركعتين في الروضة، ودعوت الله أن يعطف علي قلب جعفر بن محمد، ويرزقني من علمه ما أهتدي به إلى الصراط المستقيم، ولم اختلف إلى مالك لما أشرب قلبي من حب جعفر، ثم قصدت باب جعفر واستأذنت، فخرج خادم فقال: ما حاجتك؟ قلت: السلام على الشريف. قال: هو في الصلاة. فجلست فما لبثت إلا يسيرا إذ خرج خادم آخر فقال: ادخل على بركة الله! فدخلت وسلمت، فرد علي السلام وقال: اجلس غفر الله لك! فأطرق مليا ثم رفع رأسه فقال:
أبو من؟ قلت: أبو عبد الله. قال ثبت الله كنيتك ووفقك لكل خير. فقلت في نفسي: لو لم يكن من زيارته إلا هذا الدعاء لكان كثيرا، ثم قال: ما مسألتك؟ قلت: سألت الله أن يعطف علي قلبك ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله أجابني في الشريف ما سألته.
فقال: يا أبا عبد الله، ليس العلم بكثرة التعلم، إنما هو نور يضعه الله في قلب من يريد أن يهديه، فإذا أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله، واستفهم الله يفهمك. فقلت: ما حقيقة العبودية قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا، لأن العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون المال مال الله يضعونه