وربما خطر ببال العوام أن حبسها عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة، مع اقتراف الأوزار، فاقتضى الحال البيان بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال. والنار مطهرة لأدناس الذنوب وقد كان (ذلك) لاستيلاء الروافض حينئذ (على المسجد النبوي والمدينة) وكان القاضي والخطيب منهم، وأساؤوا الأدب كما بسط ذلك ابن حبير في رحلته، ولذ وجد عقب الحريق على جدران المسجد:
لم يحترق حرم النبي صلى لريبة * يخشى عليه وما به من عار لكنها أيدي الروافض لامست * تلك الرسوم فطهرت بالنار ووجد أيضا:
قل للروافض بالمدينة ما بكم * لقيادكم للذم كل سفيه ما أصبح الحرم الشريف محرقا * إلا لسبكم الصحابة فيه ولم يسلم من الحريق سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم، قال المؤرخون: وبقيت سواري المجسد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة الشريفة على سقف بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة.
وفي صبيحة الجمعة عزلوا موضعا للصلاة وكتبوا بذلك للخليفة المستعصم بالله (أبي أحمد عبد الله) بن المستنصر بالله (في شهر رمضان)، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع ركب العراق في الموسم وابتدئ بالعمارة أول سنة خمس وخمسين وستمائة، وقصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور الشريفة، فلم يجسروا على ذلك. واتفق رأي (صاحب المدينة يومئذ وهو) الأمير منيف بن شيحه (بن هاشم بن قاسم بن مهنئ الحسيني) مع رأي أكابر الحرم الشريف أن يطالع الإمام المستعصم بالله بذلك فيفعل ما يصل إليه أمره. فأرسلوا بذلك فلم يصل جوابه لاشتغاله وأهل دولته بإزعاج التتار لهم واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة. فتركوا الردم على حاله ولم ينزل أحد هناك. زاد المجد اللغوي: ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدم ولا يتأنى من كل أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإقدام. ووصلت الآلات من صاحب اليمن (يومئذ وهو الملك) المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور عمر بن رسول الله. ثم عزل صاحب مصر، وتولى مكانه مملوك أبيه المظفر سيف الدين قطز المعزي واسمه الحقيقي محمود بن ممدود، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه، أسر عند غعلبة التتار، فبيع بدمشق، ثم (انتقل بالبيع إلى) مصر،