والفاء في (فمن أطاع محمدا) فاء السببية، أي لما كان الرسول يدعوهم إلى الله تعالى بأمره وهو سفير من قبله فمن أطاع فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله.
وقال الطيبي: قوله: (مثل كمثل رجل) مطلع للتشبيه، وهو مبني على أن هذا التشبيه ليس من التشبيهات المفرقة كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي شبه القلوب الرطبة بالعناب، واليابسة بالحشف على التفريق، بل هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور معدودة متوهمة منضم بعضها مع بعض إذ لو أريد التفريق لقيل: مثله كمثل داع بعثه رجل ومن ثم قدمت الملائكة في التأويل الرد على الداعي وعلى المضيف، وروعي في التأويل أدب حسن، حيث لم يصرح المشبه بالرجل لكن لمح في قوله: (من أطاع الله) ما يدل على أن المشبه من هو. ونظيره في التمثيل قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) قال في الكشاف: ولي الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحل لتقديره، ومما هو بين في هذا قول لبيد:
وما الناس إلا كالديار وأهلها * بها يوم حلوها وغدوا بلاقع لم يشبه الناس بالديار وإنما شبه وجودهم فيها وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها وتركها خلاء خاوية.
وتحريره أن الملائكة مثلوا سبق رحمة الله تعالى على العالمين بإرسال الرحمة المهداة للخلق كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) [الأنبياء 107] ثم إعداده الجنة للخلق ودعوته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها، ثم إرشاده للخلق بسلوك الطريق إليها واتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسنة المدليان إلى العالم السفلي، وكأن الناس واقعون في مهواة طبيعتهم ومشتغلون بشهواتها، وأن الله تعالى يريد بلطفه رفعهم فأدلى حبل القرآن والسنة إليهم ليخلصهم من تلك الورطة، فمن تمسك بها نجا وحصل في الفردوس والجناب الأقدس عند مليك مقتدر، ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نصيبه من رحمه الله تعالى: بحال مضيف كريم بنى دارا وجعل فيها من ألوان الأطعمة المستلذة والأشربة المستعذبة مالا لا يحصى ولا يوصف ثم بعث داعيا إلى الناس يدعوهم لي الضيافة إكراما لهم، فمن تبع الداعي نال من تلك الكرامة، ومن لم يتبع حرم منها.
ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط الله تعالى بهم ونزول العقاب السرمد عليهم قولهم:
(لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة) لأن فاتحة الكلام سيقت لبيان سبق الرحمة على