قالوا: وأمر عبيد الله برأس الحسين فنصب.
وأمر بحبس من قدم به عليه من بقية أهل الحسين معه في القصر.
فقال [له] ذكوان أبو خالد: خل بيني وبين هذه الرؤس فأدفنها. ففعل فكفنها ودفنها بالجبانة. وركب إلى أجسادهم فكفنهم ودفنهم.
وكان زهير بن القين قد قتل مع الحسين فقالت امرأته لغلام له يقال له: شجرة: انطلق فكفن مولاك. قال: فجئت فرأيت حسينا ملقى فقلت: أكفن مولاي وأدع حسينا!؟ [قال:] فكفنت حسينا ثم رجعت فقلت ذلك لها، فقالت: أحسنت. وأعطتني كفنا آخر وقالت:
انطلق فكفن مولاك. ففعلت.
وأقبل عمر بن سعد فدخل الكوفة فقال: ما رجع رجل إلى أهله بشر مما رجعت به!!
أطعت ابن زياد وعصيت الله وقطعت الرحم.
قال: وقدم رسول من قبل يزيد بن معاوية يأمر عبيد الله أن يرسل إليه بثقل الحسين ومن بقي من ولده وأهل بيته ونسائه.
فاستسلفهم أبو خالد ذكوان عشرة ألف درهم فتجهزوا بها * (٣).
وقد كان عبيد الله بن زياد لما قتل الحسين بعث زحر بن قيس الجعفي إلى يزيد بن معاوية يخبره بذلك.
فقدم عليه فقال [له يزيد]: ما وراؤك؟ قال: يا أمير المؤمنين أبشر بفتح الله ونصره!!! ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وفي سبعين من شيعته فسرنا إليهم فخيرناهم الاستسلام والنزول على حكم عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام فناهضناهم عند شروق الشمس وأحطنا بهم من كل ناحية، ثم جردنا فيهم السيوف اليمانية، فجعلوا يبرقطون إلى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والامر والحفر لوذا كما لاذ الحمائم من صقر فنصرنا الله عليهم فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى كفى [الله] المؤمنين مؤنتهم!!! فأتينا على آخرهم فهاتيك أجسادهم مطرحة مجردة وخدودهم معفرة ومناخرهم مرملة تسفى عليهم الريح ذيولها بقي شبشب [كذا] تنتابهم عرج الضباع زوارهم العقبان والرخم!!!
قال: فدمعت عينا يزيد!! وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!! وقال:
كذلك [تكون] عاقبة البغي والعقوق!!! ثم تمثل يزيد:
من يذق الحرب يجد طعمها * مرا وتتركه بجعجاع قال: وقدم برأس الحسين محفز بن ثعلبة العائذي - [من] عائذة قريش - على يزيد فقال:
أتيتك يا أمير المؤمنين برأس أحمق الناس وألأمهم!!! فقال يزيد: ما ولدت أم محفز. أحمق وألام! لكن [كان] الرجل لم يقرأ كتاب الله!!!: * (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء * وتعز من تشاء وتضل من تشاء) *.
ثم قال بالخيزرانة بين شفتي الحسين وأنشأ يقول:
يفلقن هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما - والشعر لحصين بن حمام المري - فقال له رجل من الأنصار حضره: ارفع قضيبك هذا فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الموضع الذي [قضيبك] وضعته عليه * (٤).
قال: ثم أتي يزيد بن معاوية بثقل الحسين ومن بقي من أهله ونسائه فأدخلوا عليه [و] قد قرنوا في الحبال فوقفوا بين يديه فقال له علي بن الحسين: أنشدك بالله يا يزيد ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وسلم لو رآنا مقرنين في الحبال أما كان يرق لنا؟! فأمر يزيد بالحبال فقطعت وعرف الانكسار فيه.
وقالت له سكينة بنت حسين: يا يزيد بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا؟
فقال: يا بنت أخي هو والله علي أشد منه عليك! وقال: أقسمت بالله لو أن بين ابن زياد وبين حسين قرابة ما أقدم عليه، ولكن فرقت بينه وبينه سمية.
وقال [أيضا]: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين فرحم الله أبا عبد الله عجل عليه ابن زياد، أما والله لو كنت صاحبه ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا بنقص بعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه، ولوددت اني أتيت به سلما.
ثم أقبل على علي بن حسين فقال: أبوك قطع رحمي ونازعني سلطاني فجزاه الله جزاء القطيعة والاثم.
فقام رجل من أهل الشام فقال: إن سباءهم لنا حلال!!! فقال علي بن حسين: كذبت ولؤمت، ما [كان] ذاك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتأتي بغير ديننا!.
فأطرق يزيد مليا ثم قال للشامي: اجلس. ثم أمر بالنساء فأدخلن على نسائه، وأمر نساء آل أبي سفيان فأقمن المأتم على الحسين ثلاثة أيام، فما بقيت منهن امرأة إلا تلقتنا تبكي وتنحب وتحن على حسين ثلاثا.
وبكت أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز على حسين وهي يومئذ عند يزيد بن معاوية، فقال يزيد: حق لها أن تعول على كبير قريش وسيدها.
وقالت فاطمة بنت علي لامرأة يزيد: ما ترك لنا شئ. فأبلغت يزيد ذلك فقال يزيد: ما أتي إليهم أعظم ثم ما ادعوا شيئا ذهب لهم إلا أضعفه لهم.
ثم دعا بعلي بن حسين وحسن بن حسن وعمرو بن حسن فقال لعمرو بن حسن - وهو يومئذ ابن إحدى عشرة سنة -: أتصارع هذا؟ يعني خالد بن يزيد. قال: لا ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا حتى أقاتله فضمه إليه يزيد وقال: شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية.
قال: وبعث يزيد برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص وهو عامل له يومئذ على المدينة، فقال عمرو: وددت أنه لم يبعث به إلي!
فقال مروان: اسكت. ثم تناول الرأس فوضعه بين يديه وأخذ بأرنبته فقال:
يا حبذا بردك في اليدين * ولونك الأحمر في الخدين كأنما بات بمسجدين والله لكأني أنظر إلى أيام عثمان!
وسمع عمرو بن سعيد الصيحة من دور بني هاشم فقال:
عجت نساء بني زبيد عجة * كعجيج نسوتنا غداة الأرنب - والشعر لعمر [و] بن معد يكرب في وقعة كانت بين بني زبيد، وبين بني الحرث بن كعب - ثم خرج عمرو بن سعيد إلى المنبر فخطب الناس ثم ذكر حسينا وما كان من أمره وقال: والله لوددت أن رأسه في جسده وروحه في بدنه يسبنا ونمدحه، ويقطعنا كعادتنا وعادته!
فقام ابن أبي حبيش - أحد بني أسد بن عبد العزي بن قصي - فقال: أما لو كانت فاطمة حية لأحزنها ما ترى! فقال عمرو: اسكت - لا سكت - أتنازعني فاطمة وأنا من عقر ظبائها؟
والله إنه لابننا وإن أمه لابنتنا!!! أجل والله لو كانت [فاطمة] حية لأحزنها قتله ثم لم [تلم] من قتله يدفع عن نفسه!!!
فقال ابن أبي حبيش: إنه ابن فاطمة، وفاطمة بنت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى.
ثم أمر عمرو بن سعيد برأس الحسين فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه.
وقال عبد الله بن جعفر: لو شهدته لأحببت أن أقتل معه. ثم قال: عز علي بمصرع حسين.
ثم بعث * (٥) يزيد إلى المدينة فقدم عليه بعدة من ذوي السن من موالي بني هاشم ثم من موالي بني علي وضم إليهم بعدة من موالي أبي سفيان، ثم بعث بثقل الحسين ومن بقي من نسائه وأهله وولده معهم وجهزهم بكل شئ ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر لهم بها.
وقال لعلي بن حسين: إن أحببت أن تقيم عندنا فنصل رحمك ونعرف لك حقك فعلت.
وإن أحببت أن أردك إلى بلادك وأصلك؟ قال: بل تردني إلى بلادي.
فرده إلى المدينة ووصله، وأمر الرسل الذين وجههم معهم أن ينزلوا حيث شاؤوا ومتى شاؤوا.
وبعث بهم مع محرز بن حريث الكلبي ورجل من بهراء، وكانا من أفاضل أهل الشام * (٦).
* (١) وانظر ما تقدم في تعليق الحديث: (٢٧٣ و ٢٧٤) في ص ٢١٩ و ٢٢٠.
* (٢) كذا في الأصل، وفي أنساب الأشراف: ج ٣ ص ١٩٠، ط ١: " وخرج يسار مولى زياد، وسالم مولى ابن زياد فدعوا إلى المبارزة، فقال عبد الله بن عمير الكلبي [للحسين]: " أبا عبد الله إئذن لي أخرج إليهما [فأذن له] فخرج رجل آدم طوال شديد الساعدين، بعيد ما بين المنكبين فشد عليهما فقتلهما.. ".
* (٣) وأيضا قال ابن سعد في الحديث: " ١١٠ " من الترجمة: أخبرنا علي بن محمد، عن حباب ابن موسى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن حسين قال: حملنا من الكوفة إلى يزيد بن معاوية فغصت طرق الكوفة بالناس يبكون!! فذهب عامة الليل ما يقدرون أن يجوزوا بنا لكثرة الناس، فقلت: هؤلاء الذين قتلونا وهم الآن يبكون!!!
وروى أيضا الدارقطني في عنوان " باب محفر ومحفن " ولكن نسب ذيل الكلام إلى محفن وانه جرى بينه وبين معاوية كما في المؤتلف والمختلف ج ٤ ص ٢١٤٠ وعلقناه على الحديث: " ١١٠٩ " من ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق ٣ ص ٧٦ ط ٢ وراجع أنساب الأشراف ج ٣ ص.
* (٤) وبعده في الطبقات الكبرى هكذا: قال [ابن سعد]: أخبرنا كثير بن هشام، قال: حدثنا جعفر ابن برقان، قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد، قال:
لما أتي يزيد بن معاوية برأس الحسين بن علي جعل ينكت بمخصرة معه سنه ويقول:
ما كنت أظن أبا عبد الله يبلغ هذا السن؟!
* (٥) من قوله: " ثم بعث - إلى قوله - ومتى شاؤوا " كان مقدما في الأصل على قوله: " وبعث يزيد برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد.. " وأخرناه لأنه أوفق.
* (٦) وهذا المعنى ذكره ابن عساكر في ترجمة محرز من تاريخ دمشق: ج ٥٤ ص ٥٤٣ وفي النسخة الظاهرية، ج ١٩ / الورق... ثم قال: وتقدم ذلك في ترجمة الحسين.
أقول: قد سبرنا ترجمة الإمام الحسين من نسخة تركيا والظاهرية وكتبناها حرفية فلم نجد لما أشار إليه ابن عساكر عينا ولا أثرا فيستكشف من ذلك أن النواصب عمدوا إلى الترجمة فحذفوا منها ما رواه المصنف في مقتلالحسين عليه السلام، سترا على مخازي بني أمية ومعاندة لأهل البيت عليهم السلام!!! وليس هذا بأول مشاقاتهم وخياناتهم للحق والحقيقة، ولهم مواقف جمة في معاندة الحق ووضع الأيادي الخائنة على التصرف في ودائع العلماء!!!
اجمال ما جرى على الامام الحسين وأهل بيته عليهم السلام من بدء إرساله رائد الشهداء مسلم بن عقيل عليهم السلام إلى الكوفة، إلى رجوع أهل البيت من الشام إلى المدينة المنورة برواية ابن سعد في الطبقات الكبرى