وخرج البخاري من حديث سفيان عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة رضي الله تبارك وتعالى عنهم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتبوا إلى من تلفظ بالإسلام من الناس، فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، فقلنا: نخاف ونحن ألف وخمسمائة، ولقد رأيتنا ابتلينا حتى إن الرجل ليصلي وحده وهو خائف (1)؟
(١) (فتح الباري): ٦ / ٢١٨، كتاب الجهاد والسير، باب (181)، كتابة الإمام الناس، حديث رقم (3060).
قوله: (اكتبوا من تلفظ بالاسلام) في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند مسلم " أحصوا " بدل " اكتبوا "، وهي أعم من اكتبوا، وقد يفسر أحصوا باكتبوا. قوله: (فقلنا نخاف) هو استفهام تعجب وحذفت منه أداة الاستفهام وهي مقدرة، وزاد أبو معاوية في روايته " فقال: " إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا، وكأن ذلك وقع عند ترقب ما يخاف منه، ولعله كان عند خروجهم إلى أحد أو غيرها. ثم رأيت في شرح ابن التين الجزم بأن ذلك كان عند حفر الخندق وحكى الداودي احتمال أن ذلك وقع لما كانوا بالحديبية لأنه قد اختلف في عددهم، هل كانوا ألفا وخمسمائة؟ أو ألفا وأربعمائة؟.
وأما قول حذيفة: " فلقد رأيتنا ابتلينا الخ " فيشبه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان من ولاية بعض أمراء الكوفة، كالوليد بن عقبة، حيث كان يؤخر الصلاة، أو لا يقيمها على وجهها، وكان بعض الورعين يصلي وحده سرا، ثم يصلي معه خشية من وقوع الفتنة، وقيل: كان ذلك حين أتم عثمان الصلاة في السفر، وكان بعضهم يقصر سرا وحده خشية الإنكار عليه، ووهم من قال إن ذلك كان أيام قتل عثمان لأن حذيفة لم يحضر ذلك، وفي ذلك علم من أعلام النبوة، من الإخبار بالشئ قبل وقوعه، وقد وقع أشد من ذلك بعد حذيفة في زمن الحجاج وغيره.
قوله: " قال: أبو معاوية ما بين ستمائة إلى سبعمائة " أي أن أبا معاوية خالف الثوري أيضا عن الأعمش بهذا الإسناد في العدة، وطريق أبي معاوية هذه وصلها مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة، وكأن رواية الثوري رجحت عند البخاري، فلذلك اعتمدها لكونه أحفظهم مطلقا، وزاد عليهم، وزيادة الثقة الحافظ مقدمة، وأبو معاوية وإن كان أحفظ أصحاب الأعمش بخصوصه، ولذلك اقتصر مسلم على روايته، لكنه لم يجزم بالعدد، فقدم البخاري رواية الثوري لزيادتها بالنسبة لرواية الاثنين ولجزمها بالنسبة لرواية أبي معاوية.
وأما ما ذكره الإسماعيلي أن يحيى بن سعيد الأموي وأبا بكر بن عياش وافقا أبا حمزة في قوله: خمسمائة فتعارض الأكثرية والحفظية، فلا يخفى بعد ذلك الترجيح بالزيادة، وبهذا يظهر رجحان نظر البخاري على غيره. وسلك الداودي الشارح طريق الجمع فقال: لعلهم كتبوا مرات في مواطن. وجمع بعضهم بأن المراد بالألف وخمسمائة جميع من أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبي، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصة، وبالخمسمائة المقاتلة خاصة، وهو أحسن من الجمع الأول، وإن كان بعضهم أبطله بقوله في الرواية الأولى: ألف وخمسمائة رجل لإمكان أن يكون الراوي أراد بقوله: رجل نفس، وجمع بعضهم بأن المراد بالخمسمائة المقاتلة من أهل المدينة خاصة، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة هم ومن ليس بمقاتل، وبالألف وخمسمائة هم ومن حولهم من أهل القرى والبوادي.
وقال الحافظ: ويخدش في وجوه هذه الاحتمالات كلها اتحاد مخرج الحديث ومداره على الأعمش بسنده، واختلاف أصحابه عليه في العدد المذكور والله أعلم.
وفي الحديث مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يصلح للمقاتلة بمن لا يصلح، وفيه وقوع العقوبة على الإعجاب بالكثرة، وهو نحو قوله تعالى:
(ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم). وقال ابن المنير: موضع الترجمة من الفقه أن لا يتخيل أن كتابة الجيش وإحصاء عدده يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابة المأمور بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين كانت من جهة الاعجاب.
ثم ذكر المصنف حديث ابن عباس " قال رجل: يا رسول الله، إني اكتتبت في غزوة كذا " وهو يرجح الرواية الأولى بلفظ " اكتبوا " لأنها مشعرة بأنه كان من عادتهم كتابة من يتعين للخروج في المغازي. (فتح الباري) مختصرا.