مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله سبحانه بأن كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسط عليهم فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء «يد الله مغلولة» وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى ممسك يقتر بالرزق فإن كلا من غل اليد وبسطها مجاز عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يد وغل أو بسط ألا يرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قوله جاد الحمى بسط اليدين بوابل * شكرت نداه تلاعه ووهاده وقد سلك لبيد هذا المسلك السديد حيث قال وغداة ريح قد شهدت وقره * غذ أصبحت بيد السمال زمامها فإنه إنما أراد بذلك إثبات القدرة التامة للشمال على التصرف في القرة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطر بباله أن يثبت لها يدا ولا للقرة زماما واصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى ولا ينظر إليهم يوم القيامة في سورة آل عمران وقيل أرادوا ما حكى عنهم بقوله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء «غلت أيديهم» دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكنة أو بالفقر والنكد أو بغل الأيدي حقيقة بأن يكونوا أساري مغلولين في الدنيا ويسحبوا إلى النار بأغلالها في الآخرة فتكون المطابقة حينئذ من حيث اللفظ وملاحظة المعنى الأصلي كما في سبني سب الله دابره «ولعنوا» عطف على الدعاء الأول أي ابعدوا من رحمة الله تعالى «بما قالوا» أي بسبب ما قالوا من الكلمة الشنعاء وقيل كلاهما خبر «بل يداه مبسوطتان» عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس كذلك بل هو في غاية ما يكون من الجود وإليه أشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا ما يعطونه بكلتا يديهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا «ينفق كيف يشاء» جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على تلك الكفرة العظيمة والمعنى والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيق عليهم كما يشير إليه ما سيأتي من قوله عز وجل ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل الآية وكيف ظرف ليشاء والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أي ينفق كائنا على أي حال يشاء أي كائنا على مشيئته أي مريدا وترك ذكر ما ينفقه لقصد التعميم «وليزيدن كثيرا منهم» وهم علماؤهم ورؤساهم «ما أنزل إليك» من القرآن المشتمل على هذه الآيات وتقديم المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لما أن بعضهم ليس كذلك «من ربك» متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدأ أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقام الاهتمام ببيان المنتهي لأن مدار الزيادة هو النزول إليه عليه السلام كما في قوله تعالى وأنزل لكم من السماء ماء والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام «طغيانا وكفرا» مفعول ثان للزيادة أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين إما من حيث الشدة والغلو وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار
(٥٨)