وإما للمبالغة في إيجاب المأمور به وإما المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته عليه الصلاة والسلام وبالكتمان المنهى عنه إلقاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة وقرئ بالياء كما قبله «فنبذوه» النبذ الرمي والإبعاد أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق الموثق بفنون التأكيد وألقوه «وراء ظهورهم» ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلا فإن نبذ الشئ وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به وفيه من الدلالة على تحتم بيان الحق على علماء الدين وإظهار ما منحوه من العلم للناس أجمعين وحرمه كتمانه لغرض من الأغراض الفاسدة أو لطمع في عرض من الأعراض الفانية الكاسدة مالا يخفى وعن النبي صلى الله عليه وسلم من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار وعن طاوس أنه قال لوهب بن منبه إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب وقال والله لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أن الله سيعذبك وعن محمد بن كعب لا يحل لأحد من العماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل ان يسكت على جهلة حتى يسأل وعن على رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا «واشتروا به» أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه فإن ذكر نبذ الميثاق يدل على ذلك دلالة واضحة وإيقاع الفعل على الكل مع ان المراد به كتم بعضه كدلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ونحوها لما أن ذلك كتم للكل إذ به يتم الكتاب كما أن رفض بعض أركان الصلاة رفض لكلها أو بمنزلة كتم الكل من حيث إنهما سيان في الشناعة واستجرار العقاب كما في قوله تعالى «وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموه أي تركوا ما أمروا به وأخذوا بدله «ثمنا قليلا» أي شيئا تافها حقيرا من حطام الدنيا وأعراضها وفي تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ والإعراض عن المعطى والتعبير عن المشترى الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوبا بالباء الداخلة على الالآت والوسائل من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنئ الحقير على الشريف الخطير وتعكيسهم بجعلهم المقصد الأصلي وسيلة والوسيلة مقصدا ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعه مكانه «فبئس ما يشترون» ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفته والمخصوص بالذم محذوف أي بئس يشترونه ذلك الثمن «لا تحسبن» الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له «الذين يفرحون بما أتوا» أي بما فعلوا كما في قوله تعالى إنه كان وعده مأتيا ويدل عليه قراءة أبي يفرحون بما فعلوا وقرئ بما آتوا بمعنى أعطوا وبما أوتوا أي أي بما أوتوه من علم التوراة قال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود حرفوا التوراة وفرحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شئ مما في التوراة فكتموا
(١٢٥)