على أن سياق الآيات - مع الغض عما ذكر - يدفع ذلك فإنها في مقام بيان ان الله تعالى يدعو الناس برأفته ورحمته إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما ولا شرا، ولكنهم بظلمهم واختلافهم في الحق يستنكفون عن دعوته، ويكذبون بآياته، ويعبدون غيره، ويفسدون في الأرض فيستحقون العذاب، وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولا أن يخلقهم ليبغوا ويفسدوا فيهلكهم فالذي منه هو الرحمة والهداية، والذي من بغيهم واختلافهم وظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، وهذا هو الذي يعطيه سياق الآيات.
وكون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة انما هو لاتصالها بما هو الغاية الأخيرة وهو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنة: " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا " الأعراف: 43 وهذا نظير عد العبادة غاية لها لاتصالها بالسعادة في قوله: " وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " الذاريات: 56.
وقوله: " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " أي حقت كلمته تعالى واخذت مصداقها منهم بما ظلموا واختلفوا في الحق من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، والكلمة هي قوله: " لأملأن جهنم " الخ.
والآية نظيرة قوله: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ": ألم السجدة: 13 والأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال: " فبعزتك لا غوينهم أجمعين الا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ": ص: 85 والآيات متحدة المضمون يفسر بعضها بعضا.
هذه جملة ما يعطيه التدبر في معنى الآيتين وقد تلخص بذلك:
اولا ان المراد بقوله: " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " توحيدهم برفع التفرق والخلاف من بينهم وقيل: ان المراد هو الالجاء إلى الاسلام ورفع الاختيار لكنه ينافي التكليف ولذلك لم يفعل ونسب إلى قتادة، وقيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنة لكنه أراد بكم اعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثواب لأعمالكم، ونسب إلى أبى مسلم.
وأنت خبير بأن سياق الآيات لا يساعد على شئ من المعنيين.