قوله تعالى: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) لما تبين لنوح عليه السلام أنه لو ساقه طبع الخطاب الذي خاطب به ربه إلى السؤال كان سائلا ما ليس له به علم وكان من الجاهلين وان عناية الله حالت بينه وبين الهلكة، شكر ربه فاستعاذ بمغفرته ورحمته عن ذلك السؤال المخسر فقال: (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم).
والكلام في الاستعاذة مما لم يقع بعد من الأمور المهلكة والمعاصي الموبقة كالنهي عما لم يقع من الذنوب والاثام وقد تقدم الكلام فيه وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالاستعاذة من الشيطان وهو معصوم لا سبيل للشيطان إليه، قال تعالى: (قل أعوذ برب الناس - إلى أن قال - من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس) الناس: 5 وقال: (وأعوذ بك رب أن يحضرون) المؤمنون: 98 والوحي مصون عن مس الشياطين كما قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) الجن: 28.
وقوله: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) كلام صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعليم والتأديب.
أما صورة توبته فإن في ذلك رجوعا إلى ربه تعالى بالاستعاذة ولازمها طلب مغفرة الله ورحمته أي ستره على الانسان ما فيه زلته وهلاكته وشمول عنايته لحاله وقد تقدم في أواخر الجزء السادس من الكتاب بيان أن الذنب أعم من مخالفة الامر التشريعي بل كل وبال وأثر سيئ الانسان بوجه، وأن المغفرة أعم من الستر على المعصية المعروفة عند المتشرعة بل كل ستر إلهي يسعد الانسان ويجمع شمله.
وأما حقيقة الشكر فإن العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين وعصمته ببيان وجه الصواب كانت سترا إلهيا على زلة في طريقه ورحمة ونعمة أنعم الله سبحانه بها عليه فقوله عليه السلام: (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) أي إن لم تعذني من الزلات لخسرت، ثناء وشكر لصنعه الجميل.