وقد ذكروا في قوله: (إن كان الله يريد أن يغويكم) وجوها من التأويل:
منها: أن المعنى يعاقبكم على كفركم، وقد سمى الله تعالى العذاب غيا في قوله: (فسوف يلقون غيا) مريم: 59.
ومنها: أن المراد إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم ومن عادة العرب أن يسمى العقوبة باسم الشئ المعاقب عليه، ومن هذا الباب قوله:
(الله يستهزئ بهم) أي يعاقبهم على استهزائهم وقوله: (ومكروا ومكر الله) آل عمران: 54 أي عذبهم على مكرهم إلى غير ذلك.
ومنها: أن الاغواء بمعنى الاهلاك فالمعنى يريد أن يهلككم فهو من قولهم:
غوى الفصيل إذا فسد من كثرة شرب اللبن.
ومنها: أن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى يضل عباده عن الدين، وأن ما هم عليه بإرادة الله، ولولا ذلك لغيره وأجبرهم على خلافه فقال لهم نوح على وجه التعجب لقولهم والانكار لذلك إن نصحي لا ينفعكم إن كان القول كما تقولون.
وأنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الكلام في غنى من هذه التأويلات.
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون) أصل الجرم - على ما ذكره الراغب في مفرداته - قطع الثمرة من الشجرة وأجرم أي صار ذا جرم، واستعير لكل اكتساب مكروه فالجرم بضم الجيم وفتحها بمعنى الاكتساب المكروه وهو المعصية.
والآية واقعة موقع الاعتراض، والنكتة فيه أن دعوة نوح واحتجاجاته على وثنية قومه وخاصة ما أورده الله تعالى في هذه السورة من احتجاجه أشبه شئ بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واحتجاجه على وثنية أمته.
وإن شئت زيادة تصديق في ذلك فارجع إلى سورة الأنعام - وهى في الحقيقة سورة الاحتجاج - وقابل ما حكاه الله تعالى عن نوح في هذه السورة ما أمر الله به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك السورة بقوله: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك - إلى أن قال - ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة