ملكا منزها من ألواث المادة والطبيعة، وأما المؤمنون بك فإنما هم أراذلنا الائسون من كرامة الانسانية المحرومون من الرحمة والعناية.
فأجاب عنهم نوح بما معناه: أما أنا فلا أدعى شيئا مما تتوقعون من رسالتي فليست للرسول إلا الرسالة وأما هؤلاء الضعفاء الذين لهم هوان عندكم فمن الجائز أن يعلم الله من نفوسهم خيرا فيؤتيهم خيرا وفضلا فهو أعلم بأنفسهم، وملاك الكرامة الدينية والرحمة الإلهية زكاء النفس وسلامة القلب دون الظاهر الذي تزدريه أعينكم فلست أقول: لن يؤتيهم الله خيرا، فإنه ظلم يدخلني في زمرة الظالمين.
قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين) كلام ألقوه إلى نوح عليه السلام بعد ما عجزوا عن دحض حجته وإبطال ما دعا إليه من الحق، وهو مسوق سوق التعجيز والمراد بقولهم: (ما تعدنا) ما أنذرهم به في أول دعوته من عذاب يوم أليم.
وقد أورد الله سبحانه قولهم هذا فصلا من غير تفريع لانهم إنما قالوه بعد ما لبث فيهم أمدا بعيدا يدعوهم إلى التوحيد ويخاصمهم ويحاجهم بفنون الخصام والحجاج حتى قطع جميع معاذيرهم وأنار الحق لهم كما يدل عليه قوله تعالى فيما يحكى عنه عليه السلام في دعائه: (قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا - إلى أن قال - ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) نوح:
9 وفي سورة العنكبوت: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما) العنكبوت: 14.
فهذا الذي أورده الله من حجاجه قومه وجوابهم في شكل محاورة واحدة إنما وقع في مآت من السنين، وهو كثير النظير في القرآن الكريم ولا بدع فيه فإن الذي يقتص ذلك هو الله سبحانه المحيط بالدهر وبكل ما فيه والذي يسمعها بالوحي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أوتى من سعة النظر ما يجتمع عنده أشتات الأمم وأطراف الزمان.
والمعنى - والله أعلم - يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا حتى سئمنا ومللنا وما نحن لك بمؤمنين فأتنا بما تعدنا من العذاب، وهم لا يعترفون بالعجز عن خصامه وجداله بل يؤيسونه من أنفسهم في الحجاج ويطلبون منه أن يشتغل بما يشتغل