يوم القيامة أنهم إنما أشركوا واقترفوا المعاصي بسوء اختيارهم واغترارهم بالحياة الدنيا بعد البيان الإلهي وإنذارهم باليوم الاخر حتى تلبسوا بالظلم، والظالمون لا يفلحون.
فالقضاء الإلهي لا يسلب عنهم الاختيار الذي عليه مدار المؤاخذة والمجازاة، ولا الاختيار الانساني الذي عليه مدار السعادة والشقاوة يزاحم القضاء الإلهي فمتابعة الانسان أولياء من الشياطين باختياره وإرادته هي المقضية لا أن القضاء يبطل اختيار الانسان في فعله أولا ثم يضطره إلى اتباع الشياطين فيجبره الله أو يجبره الشياطين على سلوك طريق الشقاء وانتخاب الشرك واقتراف الذنوب والاثام بل الله سبحانه غنى عنهم لا حاجة له إلى شئ مما بأيديهم حتى يظلمهم لأجله، وإنما خلقهم برحمته وحثهم عليها لكنهم ظلموا فلم يفلحوا.
قوله تعالى: (ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن - إلى قوله - أجلت لنا) يقال:
أكثر من الشئ أو الفعل واستكثر منه إذا أتى بالكثير، واستكثار الجن من الانس ليس من جهة أعيانهم فإن الآتي بأعيانهم في الدنيا والمحضر لهم يوم القيامة هو الله سبحانه، وإنما للشياطين الاستكثار مما هم مسلطون عليه وهو إغواء الانس من طريق ولايتهم عليهم وليست بولاية إجبار واضطرار بل من قبيل التعامل من الطرفين يتبع التابع المتبوع ابتغاء لما يرى في اتباعه من الفائدة، ويتولى المتبوع أمر التابع ابتغاء لما يستدر من النفع في ولايته عليه وإدارة شؤونه، فللجن نوع التذاذ من إغواء الانس والولاية عليهم، وللإنس نوع التذاذ من اتباع الوساوس والتسويلات ليستدروا بذلك اللذائذ المادية والتمتعات النفسانية.
وهذا هو الذي يعترف به أولياء الجن من الانس بقولهم: ربنا استمتع بعضنا ببعض فتمتعنا بوساوسهم وتسويلاتهم من متاع الدنيا وزخارفها، وتمتعوا منا بما كانت تشتهيه أنفسهم حتى آل أمرنا ما آل إليه.
ومن هنا يظهر - كما يعطيه السياق - أن المراد بالأجل في قولهم: (وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) الحد الذي قدر لوجودهم والدرجة التي حصلت لهم من أعمالهم دون الوقت الذي ينتهى إليه أعمارهم وبعبارة أخرى آخر درجة نالوها من فعلية الوجود لا الساعة التي ينتهى إليها حياتهم فيرجع المعنى إلى أن بعضنا استمتع ببعض بسوء اختياره وسيئ علمه فبلغنا بذلك السير الاختياري ما قدرت لنا من الاجل، وهو أنا ظالمون كافرون.