وأما ما قيل: أن المراد بالشهادة الأولى الشهادة بالكفر والمعصية حال التكليف، وبالثانية الشهادة في الآخرة على كونهم كافرين في الدنيا فهو غير مفيد لان الشهادتين بالآخرة راجعتان إلى شهادة واحدة بالكفر في الدنيا فيبقى تكرار اللفظ على حاجته إلى وجه يقتضيه.
وثالثا: أن قوله: (وغرتهم الحياة الدنيا) معترضة وضعت ليندفع بها ما يمكن أن يختلج ببال السامع وهو أنهم إذ كانوا يستمتع بعضهم من بعض، وكانوا غير غافلين عن إتيان الرسل وبيانهم الآيات وإنذارهم باليوم الاخر فما بالهم وردوا مورد التهلكة وأهلكوا أنفسهم عن علم واختيار؟ فأجيب بأن الحياة الدنيا غرتهم كلما لاح لقلوبهم شئ من الحق وبرقت فيها بارقة من الخير هجمت عليهم الأهواء وأسدلت عليهم ظلمات الرذائل حتى ضربت حجابا بينهم وبين الحق وأعمت أبصارهم عن رؤيته ومشاهدته.
قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الإشارة بقوله: (ذلك) إلى مضمون ما تقدم من البيان - على ما يعطيه السياق - وقوله: (أن لم يكن) بتقدير لام التعليل فالمعنى أن الذي بيناه من إرسال الرسل والتذكير بالآيات والانذار بيوم القيامة إنما هو لان الله سبحانه ليس من سنته أن يهلك أهل القرى ويوردهم مورد السخط والعذاب وهم غافلون عما يريده منهم من الطاعة ويفعله بهم على تقدير المخالفة، وذلك ظلم منه تعالى.
فهم وإن نزلوا منزل الشقاء بتأجيل الله سبحانه وقضائه وجعله بعضهم أولياء بعض لكنه تعالى لم يسلبهم القدرة على الطاعة ولم يبطل منهم الاختيار فاختاروا الشرك والمعصية ثم أرسل إليهم رسلا منهم يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم الحساب فكفروا بهم ومكثوا على بغيهم وعتوهم فجزاهم بولاية بعضهم بعضا وقضى عليهم بأن النار مثواهم فهم أنفسهم استدعوا الهلاك عن علم وإرادة ولم يهلكهم الله وهم غافلون حتى يكون يظلمهم فهو الحكم العدل تبارك اسمه.
وقد بان بذلك أولا: أن المراد بقوله: (لم يكن ربك نفى أن يكون ذلك من سنته تعالى فإنه تعالى لا يفعل شيئا إلا بسنة جارية وصراط مستقيم، قال تعالى: (إن ربى على صراط مستقيم) (هود: 56) وفي اللفظ دلالة على ذلك.
وثانيا: أن المراد بإهلاك القرى القضاء بشقائهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة على