فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة والمعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التي تزينت بالتقوى وتجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة والعمل الصالح، والنفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق واكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى الفجور والفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير والشر والباعث إلى الطاعة والمعصية جميعا هو الله سبحانه.
قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه وهذا هو النظر في الطاعة والمعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما وبينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، وعلى تقديرها تنسب الطاعة والمعصية إليها بلا واسطة وإلى الله سبحانه بالاذن فالله سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه.
وأما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة والمعصية من حيث تشريع الاحكام، ومن حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: أن الله سبحانه يدعو إلى الايمان والكفر جميعا أو يبعث إلى الطاعة والمعصية معا؟ وهو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الانساني المبنى على الفطرة الإلهية وهذه الشرائع الإلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية والدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لاحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون، قل أمر ربى بالقسط (الأعراف: 29).
وأما أنها منسوبة إليه تعالى بالاذن فإن الملك عام والسلطنة الإلهية مطلقة وحاشا أن يتأتى لاحد أن يتصرف في شئ من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك والفسق وجميع ما ينتهى بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان والاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع ومسلك الدعوة والهداية، قال تعالى: (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) (يونس: 3) وقال:
(وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) (آل عمران: 141).
فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الاذن أو بلا واسطة، وعليه يجرى قوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم) (الآية: 108) وأوضح منه في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا) (الكهف: 7).
وللمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الافعال إليه تعالى أقوال في الآية:
منها: أن المراد هو التزيين بالامر والنهى وبيان الحسن والقبح فالمعنى: كما زينا لكم أيها المؤمنون أعمالكم زينا لكل أمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله وترك سب