يدرى شيئا من أمر عبادتهم، وهذا هو السبب في جعله الأفول منافيا للربوبية دون البزوغ والظهور بل بنى عليه القول بها فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهوره كظهور غيره من خلقه، هذا.
وقد خفى عليه أولا: أن وضع قوله: (وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) بين الآيات المتضمنة لحججه عليه السلام أدل دليل على كون حججه مأخوذه من مشهوداته الملكوتية التي هي ملاك يقينه بالله وآياته وكيف يتصور مع ذلك كونها حجة عامية غير برهانية.
وخفى عليه ثانيا أن الحجة بنيت على الحب وعدمه لا على الأفول مضافا إلى أن البناء على الأفول أيضا لا يخرجها عن كونها برهانية فهو عليه السلام إنما ذكر سبب براءته من ربوبيتها أنه وجدها آفلة غاربه وهو لا يحب الآفلين فلا يعبدها، ومن المعلوم أن عبادة الانسان لربه إنما هي لأنه رب أي لأنه يدبر أمر الانسان فيفيض عليه الحياة والرزق والصحة والخصب والامن والقدرة والعلم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه في بقائه فهو متعلق الوجود بربه من كل جهة، ومن فطريات الانسان أن يحب ما يسعده مما يحتاج إليه وأن يحب من يسعده بذلك لا يرتاب فيه ذو ريب البتة فإنما يعبد الرب لان الانسان يحبه لجلبه المنافع إليه أو لدفعه المضار عنه أو لهما جميعا.
ومن فطريات الانسان أيضا أنه لا تتعلق نفسه بما لا بقاء له إلا أن يحول حرص أو شبق أو نحوهما نظره إلى جهة اللذة ويصرفه عن التأمل والامعان في جهة فنائه وزواله، وقد استعمل القرآن الكريم هذه الطريقة كثيرا في ذم الدنيا، وردع الناس عن التعلق المفرط بزينتها والانهماك في شهواتها كقوله: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس) (يونس: 24) وقوله ما: (عندكم ينفد وما عند الله باق) (النحل:
96) وقوله: (وما عند الله خير وأبقى) (الشورى: 36).
فهو عليه السلام يفيد بقوله: (لا أحب الآفلين) أن الذي من شأنه أن يفقده الانسان ويغيب عنه ولا يبقى ولا يثبت له لا يستحق أن يحبه الانسان وتتعلق به نفسه، والرب