القوى لا تعمل قوة الادراك النظرية عملها عملا مرضيا.
والبيانات القرآنية تجرى في بث المعارف الدينية وتعليم الناس العلم النافع هذا المجرى، وتراعى الطرق المتقدمة التي عينتها للحصول على المعلومات، فما كان من الجزئيات التي لها خواص تقبل الاحساس فإنها تصريح فيها إلى الحواس كالآيات المشتملة على قوله: " ألم تر، أفلا يرون، أفرأيتم، أفلا تبصرون " وغير ذلك، وما كان من الكليات العقلية مما يتعلق بالأمور الكلية المادية أو التي هي وراء عالم الشهادة فإنها تعتبر فيها العقل اعتبارا جازما وإن كانت غائبة عن الحس، خارجة عن محيط المادة والماديات، كغالب الآيات الراجعة إلى المبدء والمعاد المشتملة على أمثال قوله: " لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يتذكرون، يفقهون، وغيرها، وما كان من القضايا العملية التي لها مساس بالخير والشر والنافع والضار في العمل والتقوى والفجور فإنها تستند فيها إلى الالهام الإلهي بذكر ما بتذكره يشعر الانسان بالهامه الباطني كالآيات المشتملة على مثل قوله: " ذلكم خير لكم، فإنه آثم قلبه، فيهما إثم، والاثم والبغى بغير الحق، إن الله لا يهدى " وغيرها، وعليك بالتدبر فيها.
ومن هنا يظهر أولا: أن القرآن الكريم يخطئ طريق الحسيين وهم المعتمدون على الحس والتجربة، النافون للأحكام العقلية الصرفة في الأبحاث العلمية، وذلك أن أول ما يهتم القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عز اسمه، ثم يرجع إليه ويبتنى عليه جميع المعارف الحقيقية التي يبينها ويدعو إليها.
ومن المعلوم أن التوحيد أشد المسائل ابتعادا من الحس، وبينونة للمادة وارتباطا بالأحكام العقلية الصرفة.
والقرآن يبين أن هذه المعارف الحقيقية من الفطرة قال: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " (الروم: 130) أي إن الخلقة الانسانية نوع من الايجاد يستتبع هذه العلوم والادراكات، ولا معنى لتبديل خلق إلا أن يكون نفس التبديل أيضا من الخلق والايجاد، وأما تبديل الايجاد المطلق أي إبطال حكم الواقع فلا يتصور له معنى فلن يستطيع الانسان، وحاشا ذلك أن يبطل علومه الفطرية، ويسلك في الحياة سبيلا آخر غير سبيلها البتة، واما الانحراف المشهود عن احكام الفطرة فليس ابطالا لحكمها بل استعمالا لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال