صحت دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم والصالحين من شعبهم وتفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم، وتحريف الكلم عن مواضعه وكتمان آيات الله والكفر بها وكل طغيان واعتداء، وتذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم وضرب الذلة والمسكنة على آخرين، وتسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم ويهتكون أعراضهم ويخربون بلادهم، وما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى.
وأما النصارى فلا فساد المعاصي والذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود ولا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة وفي زمانها وبعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، والقرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف وغيرها.
وليس لهؤلاء أن يقولوا: إن هذه المصائب والبلايا والفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل " البلاء للولاء " ولا دليل على كونها عن سخط إلهي يسحب نكالا ووبالا، وقد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء والرسل كإبراهيم وإسماعيل ويعقوب ويوسف وزكريا ويحيى وغيرهم ونزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد وموته وغيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبه إلهية وإذا حلت بكم عادت نعما وكرامات.
وذلك أنه لا ريب لاحد أن هذه المكاره الجسمانية والمصائب والبلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، وتأخذ الصالحين والطالحين معا، سنة الله التي قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا وأثرا باختلاف موقف الانسان من الصلاح والطلاح، مقام العبد من ربه.
فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه وتمكنت الفضيلة الانسانية من جوهره كالأنبياء الكرام ومن يتلوهم لا تؤثر المصائب والمحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به وبآثاره الحسنة هو وغيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية وإن شئت فقل: ترفيعا للدرجة.