ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذي يندب إليه إلا أنه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية، وإدراكهم المركوز في نفوسهم، وإنك لو تتبعت الكتاب الإلهي ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة لاثبات حق أو لابطال باطل كقوله: " قل فمن يملك من الله شيئا ان أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه " (الآية) أو تحكى الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وسائر الأنبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض " (إبراهيم: 10)، وقوله: " وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم " (لقمان: 13)، وقوله: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه أتقتلون رجلا ان يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " الآية (غافر: 28)، وقوله حكاية عن سحرة فرعون: " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض انما تقضى هذه الحياة الدنيا " إلى آخر ما احتجوا به (طه: 72).
ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة ان يؤمنوا به أو بشئ مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع والاحكام التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل الا تفاصيل ملاكاته بأمور تجرى مجرى الاحتجاجات كقوله " ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " (العنكبوت: 45) وقوله: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " (البقرة:
183)، وقوله في آية الوضوء: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " (المائدة: 6) إلى غير ذلك من الآيات.
وهذا الادراك العقلي أعني طريق الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم ويبنى على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شر أو ضر انما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة مما يتغير ولا يتبدل ولا يتنازع فيه انسان وانسان، ولا يختلف فيه اثنان، وان فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ينتهى إلى عدم تصور أحد المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح