إليه هي المعارف المذكورة في الآيتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل أخلاقية، وأخرى علمية مبتنية على معارف أصلية، والاعتداء والتعدي هو التجاوز.
وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والأصول الأخلاقية، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الانسانية، فإن الاسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول، وشريعة العمل دون الفرض، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على أجساد الاحكام والاعراض عن روحها وباطن أمرها، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى: " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه الآية " البقرة - 231.
وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله: ولا يحل لكم، وقوله: فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله: تلك حدود الله، ثم إلى الجمع في قوله: فلا تعتدوها، ثم إلى المفرد في قوله: فأولئك هم الظالمون، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الاصغاء.
قوله تعالى: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره إلى آخر الآية، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع أن المحرم إنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا، وليشعر قوله تعالى: حتى تنكح زوجا غيره، على العقد والوطئ جميعا، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الأول ان يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين، وهو التراجع، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأوليين، وذلك إن ظنا ان يقيما حدود الله.
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: وتلك حدود الله، لان المراد بالحدود غير الحدود.
وفي الآية من عجيب الايجاز ما يبهت العقل، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير أن يوجب تعقيدا في الكلام، ولا إغلاقا في الفهم.