بحفظ ما شهدت، فاسترسالي لقوة تحققي إياها واستحضاري أولاها وأخراها. فشبه انقباض الشهادة عن الحفظ وتأبيها على القوة الذاكرة بتجعيد الشعر، واستعمل التجعيد في مقابلة السبوطة، ولولا تقديم السبوطة أولا لم يجز أن يقال لم تجعد لعدم ظهوره قبل المقابلة. وقول شريح لله بلادك: تعجب من بلاده وأنه خرج منها فاضل مثله، وهذه العبارة عادة فيما يعظمونه أن ينسبوه إليه تعالى لا لغيره، وهو أبلغ من أن يقال لله أنت لأنه من باب الكناية، وكذا قولهم لله درك أو لله أبوك ولهذا كثر ما لم يكثر الأصل.
(يا من يرى مد البعوض جناحها * في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى عروق نياطها في نحرها * والمخ في تلك العظام النحل اغفر لعبد ناب من فرطاته * ما كان منه في الزمان الأول) في سورة البقرة عند قوله تعالى (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة) قال الزمخشري: وأنشدت لبعضهم: يعني نفسه كما هو دأبه في كل ما يقوله في تفسيره، ولبعضهم أو وأنشدت لبعضهم وذكر الأبيات. قال:
ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر (سبحانه الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) اه كأنه يقول: يا من يرى ما هو أدون الأشياء وما يخفى عن حواس الإنسان، اغفر لعبد تاب من ذنوبه ما أبصرت منه في الزمان الأول السابق حين كان في ميعة الشباب وغبطة العيش، وكذا يكون حال من تنبه من غفلته ورقاده، وعمل ما ينفعه في يوم معاده، وندم على ما ارتكبه في شبابه، وتحسر على ما فرط في جنب الله وخاف أليم عقابه، وكان راجيا عظيم ثوابه، وتذكر قول القائل:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة * فصحوت واستأنفت سيرة مجمل وقعدت أرتقب الفناء كراكب * عرف المحل فبات دون المنزل وعمل بقول الآخر:
بقية العمر عندي مالها ثمن * وإن غدا غير محسوب من الزمن يستدرك المرء فيها ما أفات ويحي * ما أمات ويمحو السوء بالحسن (فإن تزعميني كنت أجهل فيكم * فإني شربت الحلم بعدك بالجهل) في سورة البقرة عند قوله تعالى (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) يعني ولا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا وإلا فالثمن هو المشترى به، والثمن القليل: الرياسة التي كانت لهم في قومهم خافوا عليها الفوات لو أصبحوا أتباعا لمحمد فاستبدلوها وهي بدل قليل بآيات الله وبالحق الذي كل كثير إليه قليل وكل كبير إليه حقير، فما بال القليل الحقير، وقد توهم بعضهم أن أجهل في البيت أفعل تفضيل فيروى بالنصب، كما توهم أن الزعم ههنا بمعنى القول قد ذكر بعده الجملة ولا يكون زعمت إلا من أفعال القلوب، أو بمعنى كفلت ومصدره الزعامة، أو بمعنى يكذب ويطمع.
كأنه يقول لها: إن تقولي كنت أجهل الناس فيكم فإني بدلت حالي بعدك واستبدلت الحلم بالجهل والأناة بالطيش والرفق بالخرق، والبيت لأبي ذؤيب الهذلي من قصيدة مطلعها:
ألا زعمت أسماء أن لا أحبها * فقلت بلى لولا ينازعني شغلي وبعده: جزيتك ضعف الود لولا 7 شكيته * وما أن جزاك الضعف من أحد قبلي وبعده البيت، وبعده: