ظفر منها بحاجته، فاغتر وطغى ونسي المعاد، وشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه، فعظمت ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت بألمه، وحسرات الفوت بغصته، ومن راغب فيها لم يدرك منها ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب، خرج منها بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فاحذرها ثم احذرها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، والسار منها لأهلها غار، والنافع منها في غد ضار، قد وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها للفناء، فسرورها مشوب بالأحزان، ونعيمها مكدر بالأشجان، لا يرجع ما ولى منها وأدبر، ولا يدرى ما هو آت فينتظر، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، والانسان فيها على خطر أن عقل ونظر، وهو من النعماء على غرر، ومن البلاء على حذر، فلو كان الخالق لها لم يخبر عنها خبرا، ولم يضرب لها مثلا، لكانت هي نفسها قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عنها زاجر، وبتصاريفها واعظ، فما لها عند الله قدر، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، كره أن يخالف على الله أمره، أو يحب ما أبغضه خالقه، أو يرفع ما وضعه مليكة، زواها الرب سبحانه عن الصالحين اختبارا، وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها، المقتدر عليها، إنه أكرم بها، وينسى ما صنع الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وسلم من شده الحجر على بطنه، وقد جاءت الرواية عنه عن ربه سبحانه إنه قال لموسى: إذا رأيت الغنى مقبلا فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلا فقل مرحبا بشعار الصالحين، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى، كان يقول: أدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وصلائي في الشتاء مشارق الشمس، وسراجي القمر، ووسادي الحجر، ودابتي رجلاي،
(٢٩٥)