شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٩ - الصفحة ٢٩٤
فلان، منعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطبق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت روحك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، ثم حملوك فدفنوك، فانقطع عوادك، واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنا بأعمالك.
وقال بعض الزهاد لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها، وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقع آفة تغدو على ماله فتجتاحه، وعلى جمعه فتفرقه أو تأتى على سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشئ هو ضنين به من أحبابه، فالدنيا الأحق بالذم، وهي الآخذة ما تعطى، الراجعة فيما تهب، فبينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا هي تبكي له إذ أبكت عليه، وبينا هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطت كفها إليه بالاسترجاع والاسترداد، تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره في التراب غدا، سواء عليها ذهاب من ذهب وبقاء من بقي، تجد في الباقي من الذاهب خلفا، وترضى بكل من كل بدلا.
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل إليها عقوبة فاحذرها فإن الزاد منها ربحها، والغنى منها فقرها، لها في كل حين قتيل، تذل من أعزها، وتفقر من جمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه، يحمى قليلا مخافة ما يكرهه طويلا، ويصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدنيا الغدارة المكارة، الختالة الخداعة، التي قد تزينت بخدعها، وفتنت بغرورها، وتحلت بآمالها، وتشرفت لخطابها، فأصبحت بينهم كالعروس تجلى على بعلها، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الاخر بالأول مزدجر، ولا العارف بالله حين أخبره عنها مدكر، فمن عاشق لها قد
(٢٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 289 290 291 292 293 294 295 296 297 298 299 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 تابع ما ورد من حكمه عليه السلام ومختار أجوبة مسائله، وكلامه 7
2 فصل في الحياء وما قيل فيه 45
3 مثل من شجاعة علي عليه السلام 60
4 قصة غزوة الخندق 62
5 ما جرى بين يحيى بن عبد الله وعبد الله بن مصعب عند الرشيد 91
6 من كلامه عليه السلام لكميل بن زياد النخعي وشرح ذلك 99
7 نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه لابن عبيد 116
8 نبذ من غريب كلام الإمام علي وشرحه لابن قتيبة 124
9 خطبة منسوبة للإمام علي خالية من حرف الألف 140
10 من كلامه عليه السلام في وصف صديق وشرح ذلك 183
11 نبذ من الأقوال الحكيمة في حمد القناعة وقلة الأكل 184
12 نبذ من الأقوال الحكيمة في الفقر والغنى 227
13 نبذ من الأقوال الحكيمة في الوعد والمطل 248
14 نبذ من الأقوال الحكيمة في وصف حال الدنيا وصروفها 287
15 أقوال مأثورة في الجود والبخل 316
16 نبذ مما قيل في حال الدنيا وهوانها واغترار الناس بها 326
17 مما ورد في الطيب من الآثار 341
18 نبذ مما قيل في التيه والفخر 352
19 طرائف حول الأسماء والكنى 365
20 أقوال في العين والسحر والعدوي والطيرة والفأل 372
21 نكت في مذاهب العرب وتخيلاتها 383