تارة مرفوعة، وتارة مجرورة، وتارة منصوبة، فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد ظهر منها في التكلف أثر بين، وعلامة واضحة، وهذا الصنف من البيان أحد أنواع الاعجاز في القرآن، ذكره عبد القاهر، قال: انظر إلى سورة النساء وبعدها سورة المائدة، الأولى منصوبة الفواصل، والثانية ليس فيها منصوب أصلا، ولو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا، وظهر أثر التركيب والتأليف بينهما.
ثم إن فواصل كل واحد منهما تنساق سياقه بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية.
ثم انظر إلى الصفات والموصوفات في هذا الفصل، كيف قال: (ولدا ناصحا)، (وعاملا كادحا)، (وسيفا قاطعا)، (وركنا دافعا، لو قال: (ولدا كادحا) و (عاملا ناصحا)، وكذلك ما بعده لما كان صوابا. ولا في الموقع واقعا، فسبحان من منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة! أن يكون غلام من أبناء عرب مكة، ينشأ بين أهله، لم يخالط الحكماء، وخرج أعرف بالحكمة ودقائق العلوم الإلهية من أفلاطون وأرسطو! ولم يعاشر أرباب الحكم الخلقية والآداب النفسانية، لان قريش لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط! ولم يرب بين الشجعان، لان أهل مكة كانوا ذوي تجاره، ولم يكونوا ذوي حرب، وخرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض، قيل لخلف الأحمر: أيما أشجع عنبسة وبسطام أم علي بن أبي طالب؟ فقال: إنما يذكر عنبسة وبسطام مع البشر والناس، لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة، فقيل له: فعلى كل حال. قال: والله لو صاح في وجوههما لماتا قبل أن يحمل عليهما. وخرج أفصح من سحبان وقس، ولم تكن قريش بأفصح العرب، كان غيرها أفصح منها، قالوا: أفصح العرب جرهم وإن لم تكن لهم نباهة. وخرج أزهد الناس في الدنيا، وأعفهم، مع أن قريشا ذوو حرص ومحبة للدنيا، ولا غرو فيمن كان