وقد بالغ بعض الشعراء في الشكوى، فأتى بهذه الألفاظ، لكنه أسرف، فقال:
حظي من العيش أكل كله غصص * مر المذاق، وشرب كله شرق ومراد أمير المؤمنين عليه السلام بكلامه، أن نعيم الدنيا لا يدوم، فإذا أحسنت أساءت، وإذا أنعمت أنقمت.
ثم قال: " لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى "، هذا معنى لطيف، وذلك أن الانسان لا يتهيأ له أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت، فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا، وحال ما يشرب لا يأكل، وحال ما يركب للقنص والرياضة، لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد، وعلى هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ إلا وهو تارك لغيره منها.
ثم قال: " ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله "، وهذا أيضا لطيف لان المسرور ببقائه إلى يوم الأحد لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت وقطعه، ويوم السبت من أيام عمره، فإذا قد هدم من عمره يوما، فيكون قد قرب إلى الموت، لأنه قد قطع من المسافة جزأ.
ثم قال: " ولا تجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه " وهذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن على أحد تفسيرات المتكلمين، فإن الانسان لا يأكل لقمة إلا وقد فرغ من اللقمة التي قبلها، فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله إلا بنفاد ما قبلها من رزقه.
ثم قال: " ولا يحيا له أثر، إلا مات له أثر "، وذلك أن الانسان في الأعم الأغلب لا ينتشر صيته ويشيع فضله إلا عند الشيخوخة، وكذلك لا تعرف أولاده ويصير لهم اسم في الدنيا إلا بعد كبره وعلو سنه، فإذا ما حيى له أثر إلا بعد أن مات له أثر، وهو قوته ونشاطه وشبيبته، ومثله قوله: " ولا يتجدد له جديد، إلا بعد أن يخلق له جديد ".