فأما قوله: " قد اصطلحتم على الغل " إلى آخر الفصل، فكلام مقطوع أيضا عما قبله، والغل: الحقد.
والدمن: جمع دمنة، وهي الحقد أيضا، وقد دمنت قلوبهم بالكسر، أي ضغنت، ونبت المرعى عليها، أي دامت وطال الزمان عليها، حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات. ويجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن وهو البعر المجتمع كالمزبلة أو جمع دمنة وهي آثار الناس وما سودوا من الأرض، يقال: قد دمن الشاء الماء، وقد دمن القوم الأرض، فشبه ما في قلوبهم من الغل والحقد والضغائن بالمزبلة المجتمعة من البعر وغيره، من سقاطة الديار التي قد طال مكثها حتى نبت عليها المرعى، قال الشاعر:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى * وتبقى حزازات النفوس كما هيا (١).
قوله عليه السلام: " لقد استهام بكم الخبيث "، يعنى الشيطان، واستهام بكم: جعلكم هائمين أي استهامكم، فعداه بحرف الجر، كما تقول في " استنفرت القوم إلى الحرب " استنفرت بهم، أي جعلتهم نافرين. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب والاستدعاء، كقولك: استعلمت منه حال كذا، أي استدعيت منه أن يعلمني، واستمنحت فلانا أي طلبت واستدعيت أن يعطيني، فيكون قوله: " واستهام بكم الخبيث "، أي استدعى منكم أن تهيموا وتقعوا في التيه والضلال والحيرة.
قوله " وتاه بكم الغرور " هو الشيطان أيضا، قال سبحانه: ﴿وغركم بالله الغرور﴾ (2). وتاه بكم: جعلكم تائهين حائرين. ثم سأل الله أن يعينه على نفسه وعليهم.
ومن كلام بعض الصالحين: " اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلى دارا، وأدناهم منى جوارا، وهي نفسي ".