شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ٨ - الصفحة ٣٠٠
فقال له عبد الرحمن: أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! قال: إنك لصاحب الجيش الذي أرى! قال: نعم، قال: مع شدة احتجابك، ووقوف ذوي الحاجات ببابك!
قال: أجل، قال: لم ويحك! قال: لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم، فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت. فقال: إن كنت كاذبا إنه لرأى أريب، وإن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب، ما سألتك عن شئ قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف، قال عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه، فقال: لحسن إيراده وإصداره جشمناه ما جشمناه.
* * * قال أبو جعفر: شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات، ودخلها مرة راكب فرس، ومرة راكب بعير، ومرة راكب بغل. ومرة راكب حمار، وكان لا يعرف، وربما استخبره الواحد: أين أمير المؤمنين؟ فيسكت، أو يقول: سل الناس، وكان يدخل الشام وعليه سحق (1) فرو مقلوب، وإذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام.
قال أبو جعفر: وقدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع، فصادف الطاعون بها فاشيا، فاستشار الناس، فكل أشار عليه بالرجوع وألا يدخلها، إلا أبا عبيدة بن الجراح، فإنه قال: أتفر من قدر الله؟ قال: نعم، أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف، فروى لهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها "، فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه، وما أشار به الناس، وانصرف راجعا إلى المدينة، ومات أبو عبيدة في ذلك الطاعون، وهو الطاعون المعروف بطاعون عمواس وكان في سنه سبع عشرة من الهجرة (2).

(١) السحق: الثوب البالي.
(٢) تاريخ الطبري ١: ٢٤٠١
(٣٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 295 296 297 298 299 300 301 302 303 304 305 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 124 - من كلام له عليه السلام في حث أصحابه على القتال 3
2 عود إلى أخبار صفين 9
3 125 - من كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال، ويذم فيه أصحابه في التحكيم 103
4 126 - من كلام له عليه السلام لما عوتب على التسوية في العطاء وتصبيره الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولى السابقات والشرف 109
5 127 - من كلام له عليه السلام في الاحتجاج على الخوارج والنهى عن الفرقة 112
6 مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر 113
7 فصل في ذكر الغلاة من الشيعة والنصيرية وغيرهم 119
8 128 - من كلام له عليه السلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة 125
9 أخبار صاحب الزنج وفتنته وما انتحله من عقائد 126
10 فصل في ذكر جنكز خان وفتنة التتر 218
11 129 - من خطبة له في ذكر المكاييل والموازين 244
12 نبذ من أقول الصالحين والحكماء 246
13 130 - من كلام له عليه السلام لأبي ذر رحمة الله لما أخرج إلى الربذة 252
14 131 - من كلامه له عليه السلام في حال نفسه وأوصاف الإمام 263
15 132 - من خطبة له في تمجيد الله سبحانه 268
16 133 - من خطبة له عليه السلام في صفة القرآن وصفة النبي وأوصاف الدنيا 272
17 فصل في الجناس وذكر أنواعه 276
18 134 - ومن كلام له عليه السلام وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج 296
19 غزوة فلسطين وفتح بيت المقدس 298
20 135 - ومن كلام له عليه السلام وقد وقع بينه وبين عثمان مشاجرة 301
21 فصل في نسب ثقيف وطرف من أخبارهم 303