فقال له عبد الرحمن: أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! قال: إنك لصاحب الجيش الذي أرى! قال: نعم، قال: مع شدة احتجابك، ووقوف ذوي الحاجات ببابك!
قال: أجل، قال: لم ويحك! قال: لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم، فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم على عوراتنا، وأنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت. فقال: إن كنت كاذبا إنه لرأى أريب، وإن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب، ما سألتك عن شئ قط إلا تركتني منه في أضيق من رواجب الضرس، لا آمرك ولا أنهاك. فلما انصرف، قال عبد الرحمن: لقد أحسن الفتى في إصدار ما أوردت عليه، فقال: لحسن إيراده وإصداره جشمناه ما جشمناه.
* * * قال أبو جعفر: شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات، ودخلها مرة راكب فرس، ومرة راكب بعير، ومرة راكب بغل. ومرة راكب حمار، وكان لا يعرف، وربما استخبره الواحد: أين أمير المؤمنين؟ فيسكت، أو يقول: سل الناس، وكان يدخل الشام وعليه سحق (1) فرو مقلوب، وإذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام.
قال أبو جعفر: وقدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع، فصادف الطاعون بها فاشيا، فاستشار الناس، فكل أشار عليه بالرجوع وألا يدخلها، إلا أبا عبيدة بن الجراح، فإنه قال: أتفر من قدر الله؟ قال: نعم، أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف، فروى لهم عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " إذا كنتم ببلاد الطاعون فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها "، فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه، وما أشار به الناس، وانصرف راجعا إلى المدينة، ومات أبو عبيدة في ذلك الطاعون، وهو الطاعون المعروف بطاعون عمواس وكان في سنه سبع عشرة من الهجرة (2).