ودراسة واستقصاء واستنباطا، وتصانيفه تشهد على تلك الجهود العظيمة، والمعاناة الشديدة التي بذلها لإخراج مصنفاته تنبض بالأصالة والإبداع، هذا ما دعا ياقوت إلى القول كما سبق: أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره، وشهد بذلك أيضا تلميذه الحاكم، فقال: صنف فخرج له من التصنيف في الحديث ما لم يسبق إليه، وليس أدل على إبداعه ومعاناته في التصنيف من كتابنا هذا، " التقاسيم والأنواع " فقد وصل في إبداعه إلى درجة من الإغراب لم يستطع الناس معها تمثل طريقته، ولا التكيف مع منهجه في تأليفه، وسيرد الحديث عنه مستقلا.
وهذا كتاب آخر من مصنفاته الغزيرة هو " الهداية إلى علم السنن "، أسرد لك طريقته فيه - كما ذكرها ياقوت - لتتبين الجهود المكثفة التي بذلها لإخراج الكتاب، فهو كتاب قصد فيه إظهار الصناعتين اللتين هما صناعة الحديث والفقه، يذكر حديثا، ويترجم له، ثم يذكر من يتفرد بذلك الحديث، ومن مفاريد أي بلد هو، ثم يذكر كل اسم في اسناده من الصحابة إلى شيخه بما يعرف من نسبته ومولده وموته وكنيته وقبيلته وفضله وتيقظه، ثم يذكر ما في ذلك الحديث من الفقه والحكمة، فإن عارضه خبر ذكره، وجمع بينهما، وإن تضاد لفظه في خبر آخر، تلطف للجمع بينها، حتى يعلم ما في كل خبر من صناعة الفقه والحديث معا. قال ياقوت: وهذا من أنبل كتبه وأعزها.
وهاك مصنفا آخر يكشف عن تلك المعاناة التي ينوء بها العصبة من الرجال، إنه كتاب " شعب الإيمان "، يذكر لنا ابن حبان كيف صنفه، فيقول: إنه تتبع حديث أبي هريرة " الإيمان بضع وسبعون شعبة " مدة، فجعل يعد الطاعات، فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا، فرجع إلى السنن، فعد كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان، فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فرجع إلى كلام الله، فتلاه بالتدبر، وعد كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان، فإذا هي تنقص أيضا، فضم الكتاب إلى السنن، وأسقط