" أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره " (1) وقد عكست مصنفاته هذه عقليته المبدعة، وثقافته الأصيلة الواسعة، فلم تكن ليستغني عنها بغيرها، بل صارت كما قال ياقوت: " عدة لأصحاب الحديث "، وسيرد وصف طبيعة تصنيفه عند الحديث عن مؤلفاته.
وفي الفقه تعب عليه حتى صار من كبار فقهاء الشافعية (2)، وأهله تمكنه فيه أن يكون قاضيا، إذ لا يلي القضاء آنذاك إلا مضطلع في الفقه، متمكن من نواحيه، عارف بدقائق مسائله، ومشكل وقائعه، فولي القضاء مدة طويلة في أكثر من بلدة، منها نسا وسمرقند وغيرهما، ولعل هذا - كما يقول بعضهم - ما أثار حفيظة فقهاء الحنفية الذين كانوا يعدون وظيفة القضاء وقفا عليهم، فجرت بينه وبينهم منازعات وخصومات، حملت ابن حبان على مجاوزة الحد، حين لم يجد أغيظ لهؤلاء من الطعن في إمامهم أبي حنيفة، فألف كتابا في " علل مناقبه " عشرة أجزاء، وكتابا في " مثالبه " عشرة أجزاء، وكتابا في " علل ما استند إليه " عشرة أجزاء، وكان الأولى به أن يكظم غيظه، فلا يأخذ أحدا بذنب غيره، وأبو حنيفة ذاك الإمام الجليل القدر، العظيم الشأن، من طبق علمه الآفاق، وعرف فضله القاصي والداني، فكيف ينال منه لذنب اقترفه رجل انتحل مذهبه بعد قرنين من وفاته؟! فسامح الله ابن حبان، وغفر له هذه الهفوة.
وقد تلمذ في الفقه على شيخه محدث الوقت محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأخذ عنه طريقته في استنباط الأحكام والمسائل الفقهية، وهذا الكتاب يظهر مدى تمسك ابن حبان بمنهج شيخه في الاستنباط، وتقليده الكامل له، لكن مع تصرفه الخاص الذي أملته عليه عقليته وأسلوبه الذي سأتعرض له بعد هذا الفصل، وهذا ما دعا ابن الصلاح إلى أن يغمز منه غمزا شديدا حين