وأما الضرب الثاني: وهو الاجتهاد الذي يمكن أن ينقطع فثلاثة أنواع: أحدها المسمى بتنقيح المناط، وذلك أن يكون الوصف المعتبر في الحكم مذكورا مع غيره في النص فينقح بالاجتهاد حتى يميز ما هو معتبر مما هو ملغى.
الثاني المسمى بتخريج المناط، وهو راجع إلى أن النص الدال على الحكم لم يتعرض للمناط، فكأنه أخرج بالبحث، وهو الاجتهاد القياسي.
الثالث: وهو نوع من تحقيق المناط المتقدم الذكر لأنه ضربان: أحدهما ما يرجع إلى الأنواع لا إلى الأشخاص، كتعين نوع المثل في جزاء الصيد، ونوع الرقبة في العتق في الكفارات وما أشبه ذلك. والضرب الثاني: ما يرجع إلى تحقيق مناط فيما تحقق مناط حكمه، فكأن المناط على قسمين: تحقيق عام، وهو ما ذكر. وتحقيق خاص من ذلك العام.
إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.
أما الأول فقد مر في كتاب المقاصد أن الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتبرت من حيث وضعها الشارع كذلك، لا من حيث إدراك المكلف إذ المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات، واستقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الانسان مبلغا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألة من مسائل الشريعة، وفي كل باب من أبوابها، فقد حصل له وصف هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله.
وأما الثاني: فهو كالخادم للأول، فإن التمكن من ذلك إنما هو بواسطة معارف محتاج إليها في فهم الشريعة أولا، ومن هنا كان خادما للأول، وفي استنباط الأحكام ثانيا، لكن لا تظهر ثمرة الفهم إلا في الاستنباط. فلذلك جعل شرطا ثانيا، وإنما كان الأول هو السبب في بلوغ هذه المرتبة لأنه المقصود والثاني وسيلة.
هذا هو الاجتهاد عند الأصوليين وأما الفقهاء فهو عندهم مرتبة راقية من الفقه يقتدر بها الفقيه على رد الفرع إلى الأصل، واستنباطه منه، والتمكن من دفع ما يعترض المقام من نقد ورد، وإبرام ونقض، وشبه وأوهام.