الكتبة، لا في أصل الفن، ولو ذهبنا إلى ذكر الشواهد لهذه كلها لخرج الكتاب عن وضعه، هكذا خفيت الحقيقة بين مفرط ومفرط، وذهبت ضحية الميول والشهوات.
فواجب الباحث أن يسبر هذا الغور، متجردا عن النعرات الطائفية، غير متحيز إلى فئة، متزحزحا عن عوامل الحب والبغض، ونصب عينيه مقياس من أصول مسلمة، يقابل به صفحة التاريخ، فإن طالته أو قصرت عنه رفضها، وإن قابلته مقابلة المثل بالمثل اعتمد عليها، على تفصيل لا يسعه نطاق البحث هيهنا.
أهمية الغدير في التاريخ لا يستريب أي ذي مسكة في أن شرف الشئ بشرف غايته، فعليه إن أول ما تكسبه الغايات أهمية كبرى من مواضيع التاريخ هو ما أسس عليه دين، أو جرت به نحلة، واعتلت عليه دعايم مذهب، فدانت به أمم، وقامت به دول، وجرى به ذكر مع الأبد، ولذلك تجد أئمة التاريخ يتهالكون في ضبط مبادئ الأديان وتعاليمها، وتقييد ما يتبعها من دعايات، وحروب، وحكومات، وولايات التي عليها نسلت الحقب والأعوام، و مضت القرون الخالية (سنة الله في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا) وإذا أهمل المؤرخ شيئا من ذلك فقد أوجد في صحيفته فراغا لا تسده أية مهمة، وجاء فيها بأمر خداج، بتر أوله، ولا يعلم مبدءه، وعسى أن يوجب ذلك جهلا للقارئ في مصير الأمر ومنتهاه.
إن واقعة (غدير خم) هي من أهم تلك القضايا، لما ابتنى عليها وعلى كثير من الحجج الدامغة، مذهب المقتصين أثر آل الرسول صلوات الله عليه وعليهم، وهم معدودون بالملايين، وفيهم العلم والسؤدد، والحكماء، والعلماء، والأماثل، ونوابغ في علوم الأوايل والأواخر، والملوك، والساسة، والأمراء، والقادة، والأدب الجم، والفضل الكثار، وكتب قيمة في كل فن، فإن يكن المؤرخ منهم فمن واجبه أن يفيض على أمته نبأ بدء دعوته، وإن يكن من غيرهم فلا يعدوه أن يذكرها بسيطة عندما يسرد تاريخ أمة كبيرة كهذه، أو يشفعها بما يرتئيه حول القضية من غميزة في الدلالة، إن كان مزيج نفسه النزول على حكم العاطفة، وما هنالك من نعرات طائفته، على حين أنه لا يتسنى له