لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد " وقوله: " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " فان ذلك في مواطن غير واحد من مواطن ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة.
والمراد يكفر أهل المعاصي بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، والكفر في هذه الآية البراءة، يقول: يتبرأ بعضهم من بعض، ونظيرها في سورة إبراهيم عليه السلام قول الشيطان: " إني كفرت بما أشركتمون من قبل " (1) وقول إبراهيم خليل الرحمن: " كفرنا بكم " (2) يعني تبرأنا منكم.
ثم يجتمعون في موطن آخر يبكون فيها فلو أن تلك الأصوات بدت لأهل الدنيا لزالت جميع الخلق عن معايشهم وانصدعت قلوبهم إلا ما شاء الله، ولا يزالون يبكون حتى يستنفدوا الدموع ويفضوا إلى الدماء.
ثم يجتمعون في موطن آخر فيستنطقون فيه فيقولون: " والله ربنا ما كنا مشركين " وهؤلاء خاصة هم المقرون في دار الدنيا بالتوحيد، فلم ينفعهم إيمانهم بالله مع مخالفتهم رسله، وشكهم فيما أتوا به عن ربهم، ونقضهم عهودهم في أوصيائهم واستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكذبهم الله بما انتحلوه من الايمان بقوله: " انظر كيف كذبوا على أنفسهم " (3) فيختم الله على أفواههم وتستنطق الأيدي والأرجل والجلود، فيشهد بكل معصية كانت منهم، ثم يرفع عن ألسنتهم الختم فيقولون لجلودهم: " لم شهدتم علينا؟ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " (4).
ثم يجتمعون في موطن آخر فيفر بعضهم من بعض لهول ما يشاهدونه من صعوبة الامر، وعظم البلاء، فذلك قول الله عز وجل: " يوم يفر المرء من أخيه [وأمه وأبيه وصاحبته وبينه] " (5) الآية