تكلف ما لم يؤمر المرء بعلمه. قال صاحب المواقف وشارحه بعد إيراد هذه المباحث:
ما ذكرناه كله آراء الفلاسفة حيث نفوا القادر المختار، فأحالوا اختلاف الأجسام بالصور إلى استعداد في موادها، وأحالوا اختلاف آثارها إلى صورها المتبائنة و أمزجتها المتخالفة، وكل ذلك إلى حركات الأفلاك وأوضاعها. وأما المتكلمون فقالوا: الأجسام متجانسة بالذات لتركبها من الجواهر الفردة، وأنها متماثلة لا اختلاف فيها، وإنما يعرض الاختلاف للأجسام لا في ذواتها بل بما يحصل فيها من الاعراض بفعل القادر المختار (انتهى).
ثم اعلم أن ما يشاهد من انعقاد السحب في قلل الجبال وتقاطرها مع أن الواقف على قلة الجبل لا يرى سحابا ولا مطرا ولا ماء، والذين تحت السحاب ينزل عليهم المطر لا ينافي الظواهر الدالة على أن المطر من السماء بوجهين: أولهما أنه يمكن أن ينزل عليهم المطر من السماء إلى السحاب رشحا ضعيفا لا يحس به أو قبل انعقاد السحاب على الموضع الذي يرتفع منه. وثانيهما أن نقول بحصول الوجهين معا وانقسام المطر إلى القسمين، فمنه ما ينزل من السماء، ومنه ما يرتفع من بخار البحار والأراضي الندية. ويؤيده ما رواه شيخنا البهائي - قدس الله روحه - في كتاب " مفتاح الفلاح " حيث قال: نقل الخاص والعام أن المأمون ركب يوما للصيد فمر ببعض أزقة بغداد على جماعة من الأطفال، فخافوا وهربوا وتفرقوا، وبقي واحد منهم في مكانه، فتقدم إليه المأمون وقال له: كيف لم تهرب كما هرب أصحابك؟ فقال: لان الطريق ليس ضيقا فيتسع بذهابي، و لا بي عندك ذنب فأخافك لأجله، فلأي شئ أهرب؟! فأعجب كلامه المأمون فلما خرج إلى خارج بغداد أرسل صقره فارتفع في الهواء ولم يسقط على وجه الأرض حتى رجع وفي منقاره سمكة صغيرة، فتعجب المأمون من ذلك، فلما رجع تفرق الأطفال وهربوا إلا ذلك الطفل فإنه بقي في مكانه كما في المرة الأولى، فتقدم إليه المأمون وهو ضام كفه على السمكة وقال له: قل أي شئ في يدي؟ فقال:
إن الغيم حين أخذ من ماء البحر تداخله سمك صغار فتسقط منه فيصطادها الملوك