(فمن علم عمل، ومن عمل علم) قيل: هذا أمر في صورة الخبر يعني يجب أن يكون العلم مع العمل بعده، والعمل مع العلم قبله، والأظهر أنه إخبار بأن كل واحد من العلم والعمل لا يفارق صاحبه، وقد شبه المحقق الطوسي العلم بالصورة والعمل بالمادة وقال: فكما لا وجود للمادة بلا صورة ولا ثبات للصورة بلا مادة فكذلك لا وجوده لعمل بلا علم ولا ثبات لعلم بلا عمل، وإذا اجتمعا حصل الغرض الأصلي من خلق الإنسان.
أقول: سر ذلك أن المراد بالعلم العلم المعتبر عقلا وشرعا وهو الذي خرج من حد الحال إلى حد الرسوخ والملكة، وهذا العلم لا ينفك عنه آثاره قطعا ومن جملتها الأفعال والأعمال الحسنة. وكذلك المراد بالعمل العمل الموجب للقرب من الحق والدخول في زمرة المقربين، وهذا العمل لا يفارق عنه العلم أصلا فبينهما تلازم كما بين المادة والصورة، فكل علم لم يكن معه عمل فهو حال مقرون بالاستخفاف بالدين ومثل هذا العلم لكونه حالا ومشتملا على الاستخفاف مع إمكان زواله لحصول أسباب الزوال وموانع الرسوخ ليس بعلم حقيقة، وكل عمل لم يكن معه علم فهو متضمن للبدعة والفساد على اليقين; لأن ما يفسد العامل الجاهل أكثر مما يصلح، ومثل هذا العمل ليس بعمل حقيقة.
(والعلم يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل عنه) في المغرب: الهتف الصوت الشديد من باب ضرب، وهتف به صاح به ودعاه، وتقول: سمعت هاتفا يهتف إذا كنت تسمع الصوت ولا تبصر أحدا، شبه العلم بمن يدعو صاحبه في محل موحش فاستعير الهتف والارتحال له.
وحاصل الكلام: أن العلم باعث على العمل ودليل عليه، والعمل حافظ له وسبب لبقائه، فإن عمل العالم بمقتضى علمه دام نور قلبه من العلم وإلا زال عنه.
توضيح ذلك: أن العلم نور إلهي وسراج رباني يتنور القلب به بالإفاضة، إما بالمكاشفة أو بالكسب والتعليم، وهو سبب لحالات اخرى للقلب مثل الشوق والعزم على العمل الموجب لقرب الحق والعمل له تأثير عظيم في صفاء القلب وإزالة الظلمة والحجاب عنه، وهو بذلك سبب لحفظ العلم وحراسته كما أن ترك العمل وهو ذنب له تأثير في ظلمة القلب وكدورته واحتجابه بالغشاوة الموجبة لزوال العلم; لأن إحاطة الظلمة وسواد الكدورة بجزء من القلب يوجب خروج نور العلم منه حتى إذا أحاطت الظلمة بجميع أجزائه خرج عنه نور العلم بالكلية، وبما ذكرنا يظهر حقيقة قوله (عليه السلام): «والعلم يهتف بالعمل»; لأن العلم سبب للعمل ودليل عليه، والسبب يدعو المسبب ويطلبه، فإن أجابه وتبعه بقي العلم واستمر ثباته; لأن العمل يصلح مرآة القلب ويكمل استقامته وينظم سياسته، وإن لم يجبه ولم يتبعه ارتحل العلم وزال لأن وجه المرآة مسود مظلم