الآخرة، والمعرض عنها هالك بسطوة مالك الملوك في الآخرة كما أن المعرض عن الأعمال الظاهرة هالك بسيف سلاطين الدنيا بحكم فتوى فقهاء الدنيا، فنظر الفقهاء في فروض العين بالإضافة إلى صلاح الدنيا وهذا بالنظر إلى صلاح الآخرة، ولو سئل الفقيه عن معنى الإخلاص أو التوكل أو عن وجه الاجتراز عن الرياء مثلا لتوقف فيه مع أنه فرض عينه الذي في إهماله هلاكه في الآخرة، ولو سئل عن الظهار واللعان والسبق والرمي مثلا يسرد مجلدات من التفريعات الدقيقة التي ينقضي الدهور ولا يحتاج إلى شيء منها ولا يزال يتعب فيه ليلا ونهارا في حفظه ودرسه ويغفل عما هو مهم نفسه في الدين، ويزعم أنه مشتغل بعلم الدين ويلتبس على نفسه وعلى غيره والفطن يعلم أن ليس غرضه أداء الحق في فرض الكفاية وإلا لقدم فرض العين بل غرضه تيسر الوصول به إلى تولي الأوقاف والوصايا وحيازة أموال الأيتام وتقلد القضاء والحكومة والتقدم على الأقران والغلبة على الخصوم. هيهات قد اندرس علم الدين بتلبيس علماء السوء والله المستعان وإليه اللياذ في أن يعيذنا من هذا الغرور الذي يسخط الرحمن ويضحك الشيطان.
أقول: لقد أفرط في ذم الفقهاء وكأنه ابتلى بالفقهاء الموصوفين بالصفات المذكورة أو أخبر عن حال من ينسب نفسه إلى الفقه في عصرنا هذا حيث يجعل ما التقطه من كتب العلماء ذريعة إلى التوسل بالسلاطين والتقرب إلى السفهاء وإخوان الشياطين، وليس هو أول من ذمهم بذلك; لأن ذم علماء السوء متواتر من طرق أهل العصمة (عليهم السلام) وليس غرضه ذم الفقهاء على الإطلاق; إذ الفقيه العالم بالدين العامل الزكي الأخلاق الورع الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من ورثة النبيين ومعدود من الصديقين، وهو في الآخرة من المقربين.
وأما العلوم الغير الشرعية وهو ما يستفاد من العقل أو الوضع فمنها ممدوح ومنها مباح ومنها مذموم، أما الممدوح فهو ما يرتبط به صلاح الدنيا أو يستكمل به النفس ولا يضر بالدين كعلم الطب وعلم الحساب وعلم الرياضي وعلم المنطق وعلم العربية، وأمثال ذلك، وقد يجب بعض هذه العلوم إذا كان له مدخل في العلوم الشرعية كعلم الحساب المتعلق بقسمة المواريث والوصايا وغيرها، وعلم العربية لأنه آلة لعلم الكتاب والسنة لكونهما عربيين وعلم المنطق لكونه آلة لمعرفة صحة الأدلة وفسادها (1)، ثم الواجب منها قدر الضرورة والزائد عليه فضيلة لا فريضة.