الجاهل به بأن عاقل ثم يظهر منه في مجلسه ما ينافيه، فإذا كان المجنون حقيقة قد يعرف ما يقول ويقصده فغيره بالأولى، فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، وكذا يقال فيمن اختل عقله لكبر أو لمرض أو لمصيبة فاجأته، فما دام في حال غلبة الخلل في الأقوال والافعال لا تعتبر أقواله وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح كما لا تعتبر من الصبي العاقل، نعم يشكل عليه ما سيأتي في التعليق عن البحر، وصرح به في الفتح والخانية وغيرهما، وهو: لو طلق فشهد عنده اثنان أنك استثنيت وهو غير ذاكر، إن كان بحيث إذا غضب لا يدري ما يقول وسعه الاخذ بشهادتهما، وإلا لا اه. فإن مقتضاه أنه إذا كان لا يدري ما يقول يقع طلاقه، وإلا فلا حاجة إلى الاخذ بقولهما إنك استثنيت، وهذا مشكل جدا، إلا أن يجاب بأن المراد بكونه لا يدري ما يقول أنه لقوة غضبه قد ينسى ما يقول ولا يتذكره بعد، وليس المراد أنه صار يجري على لسانه ما لا يفهمه أو لا يقصده، إذ لا شك أنه حينئذ يكون في أعلى مراتب الجنون، ويؤيد هذا الحمل أنه في هذا الفرع عالم بأنه طلق وهو قاصد له، لكنه لم يتذكر الاستثناء لشدة غضبه، هذا ما ظهر لي في تحرير هذا المقام، والله أعلم بحقيقة المرام. ثم رأيت ما يؤيد ذلك الجواب، وهو أنه قال في الولوالجية: إن كان بحال لو غضب يجري على لسانه ما لا يحفظه بعده جاز له الاعتماد على قول الشاهدين، فقوله لا يحفظه بعده صريح فيما قلنا، والله أعلم. قوله: (لأنه أعاد الضمير إلى غير معتبر) أشار به إلى أن الفرق بين كلام الصبي وبين كلام النائم هو أن كلام الصبي معتبر في اللغة والنحو، غاية الأمر أن الشارع ألغاه، بخلاف كلام النائم فإنه غير معتبر عند أحد اه ح.
قلت: وهو مأخوذ من قول الشارح، ولذا لا يتصف بصدق ولا كذب ولا خبر ولا إنشاء.
وفي التحرير: وتبطل عباراته من الاسلام والردة والطلاق، ولم توصف بخبر وإنشاء وصدق وكذب كألحان الطيور اه. ومثله في التلويح، فهذا صريح في أن كلام النائم لا يسمى كلاما لغة ولا شرعا بمنزلة المهمل. وأما فساد صلاته به فلان إفسادها لا يتوقف على كون الكلام معتبرا في اللغة أو الشرع، لأنها تفسد بالمهمل أكثر من غيره، فقد اتضح الفرق بين كلامه وكلام الصبي، فافهم.
ثم لا يخفى أنه لا حاجة إلى الفرق بينهما في قوله: أجزته لأنه لا يقع فيهما، لان الإجازة لما ينعقد موقوفا، وكل من طلاق الصبي والنائم وقع باطلا لا موقوفا، كما هو الحكم في تصرفات الصبي التي هي ضرر محض كالطلاق والعتق، بخلاف المتردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء والنكاح فإنه ينعقد موقوفا حتى لو بلغ فأجازه صح كما قدمناه قبيل باب المهر، وإنما يحتاج إلى الفرق بينهما في قوله: أوقعته فإنه قدم في الصبي أنه يقع لأنه ابتداء إيقاع، ولم يجعل في النائم كذلك.
وتوضيح الفرق أن كلام الصبي له معنى لغوي وإن لم يلزمه الشرع بموجبه، فصح عود الضمير في أوقعته إلى جنس الطلاق الذي تضمنه قوله لزوجته طلقتك، بخلاف النائم فإن كلامه لما لم يعتبر لغة أيضا كان مهملا لم يتضمن شيئا، فقد عاد الضمير على غير مذكور أصلا، فكأنه قال: أوقعت بدون ضمير، فلم يصح جعله ابتداء إيقاع. قوله: (أو جعلته طلاقا) كذا عبارة البحر.