كانت هذه إلمامة بالزاوية السياسية والتركيبة الاجتماعية، والتي يقابلها تقاطع آخر بين الأنصار والقرشيين من الناحية الفقهية، وذلك ما أفرزته حالة تمسك المد الأنصاري بمسلك التعبد المحض، وانجراف التيار القرشي وراء مسلك الاجتهاد والرأي على أن وجود متعبدين ماحضين من القرشيين، ووجود مجتهدين مرتئين من الأنصار لا يخرم الإطار العام للمسير الفقهي لكلا الاتجاهين، وإذا توخينا الدقة أكثر سمينا الاتجاه الأول " الأنصار والمتعبدون " والثاني " قريش والمجتهدون "، فمن شذ من الأنصار دخل في حيز " المجتهدين " ومن شذ من القرشيين درج في المتعبدين.
وبمعنى آخر: نحن لا نريد بقولنا هذا تصحيح فعل الأنصاري والقول بأن جميع أقواله وأفعاله مستوحاة من النص، أو أنهم جميعا يتفقون مع علي بن أبي طالب، لاجتماعهم معه على أرضية واحدة، وكذا لا نريد القول بعكسه في القرشي، بل الذي نريد قوله: أن المسلك العام للأنصار هو الأخذ بما عرفوه وعملوا به من سنة ونص وعدم ايمانهم بضرورة الاجتهاد في المفردات التي نزل بها الوحي، بخلاف القرشي الذي يسعى لتحكيم رأي القرشيين واعطاءه الشرعية. وإن كان هناك من شذ من الطرفين عن مسيرهم العام، إذ تلحظ الشذوذ في سيرة الواحد منهم، فيأخذ الأنصاري مثلا بالنص في مفردة ويجتهد في أخرى، وكذا القرشي فقد يجتهد في مفرده ويدافع عن النص في مفردة أخرى، لكن الصبغة العامة والسيرة الغالبة عند الأنصاري هي اتباع ما عرفوه وجرت سيرتهم عليه وعدم تأثرهم بالجديد المستحدث، بل وقوفهم أمامه في بعض الأحيان، بخلاف القرشي الذي تأخذه العصبية لتحكيم رأي قرينه لأنه يمس بكيانهم القبلي. وإليك مثالا على ذلك.
نحن نعلم أن عثمان بن عفان قد أتم الصلاة بمنى خلافا لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرة الشيخين وجاء عن معاوية أنه لما قدم مكة حاجا قصر بمنى في الظهر فنهض مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان، فقالا: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عتبه به.
فقال لهما: وما ذاك؟
قالا: ألم تعلم أنه (أي عثمان) أتم الصلاة بمكة؟
قال لهما: ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومع أبي بكر وعمر.