أغنت المشاهدة عن الاعتذار ونابت الخبرة عن الاستخبار وجعل يشرب وينخب علي من غير إكراه ولا حث ولا استبطاء إلى أن رأيت الشراب قد دب فيه وأكب على مجاذبة غلامه والفطنة تثنيه في الوقت بعد الوقت فأظهرت السكر وحاولت النوم وجاء الغلام ببرذعة ففرشها لي بإزاء برذعته فنهضت إليها وقام يتفقد أمري بنفسه فقلت له إن لي مذهبا في تقريب غلامي مني واعتمدت بذلك تسهيل ما يختاره من هذه الحال في غلامه فتبسم وقال لي بسكره جمع الله لك شمل المسرة كما جمعه لي بك وأظهرت النوم وعاد يجاذب غلامه بأعذب لفظ وأحلى معاتبة ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة وانبساط يد وغلامه تارة يقبل يده وتارة فمه وغلبتني عيناي إلى أن أيقظني هواء السحر فانتبهت وهما متعانقان بما كان عليهما من اللباس فأردت توديعه وحاذرت إنباهه وإزعاجه فخرجت ولقيني الخادم يريد إيقاظه وتعريفه انصرافي فأقسمت عليه أن لا يفعل ووجدت غلامي قد بكر بما أركبه كما كنت أمرته فركبت منصرفا وعاملا على العود إليه والتوفر على مواصلته وأخذ الحظ من معاشرته ومتوهما أن ما كنت فيه منام لطيبه وقرب أوله من آخره واعترضتني أسباب أدت إلى اللحاق بسيف الدولة فسرت على أتم حسرة لما فاتني من معاودة لقائه وقلت في ذلك (ويوم كأن الدهر سامحني به * فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر) (جرت فيه أفراس الصبا بارتياحنا * إلى دير مران المعظم والعمر) (بحيث هواء الغوطتين معطر النسيم * بأنفاس الرياحين والزهر) (فمن روضة بالحسن ترفد روضة * ومن نهر بالفيض يجري إلى نهر) (وفي الهيكل المعمور منه افترعتها * وصحبي حلالا بعد توفية المهر) (ونزهت عن غير الدنانير قدرها * فما زلت منها أشرب التبر بالتبر)
(٢٩٩)