وتقدم الظاهر السهل من الأمور على بواطنها الصعبة، تعرض له معان مما يعالج فيطرح المنحرف منها، والساذج، والسطحي، ويبسط المستقيم الغني العميق، ويطلع به جديدا من هذا الجديد الذي تعرفه وتعجب لنفسك أنك لم تعرفه قبل أن يعرفك هو به.
ثم أخذني منه في جانب الصورة وضوحه، وعذوبته، وتسلسله وشمول استيعابه في صفاء ديباجة، وجلاء عبارة، ورقة حاشية، وإشراق عرض، فما يكاد يتناول أخفى الأفكار، وأشق المسائل حتى يسيلها رقراقة ويدير منها على قرائه كؤوسا لذة للشاربين، فما أدري والله أيهما أطوع له: الفكر، أو اللفظ، ولكني لا أشك أنهما جميعا طيعان له، ما رأيتهما جمحا عليه مرة قط، وإني أعرف أن المواءمة بين اللفظة ومعناها أصعب من قلع الضرس على يد حلاق قديم.
ولا يقف إعجابي به عند هذا الحد الأدبي، فأنا أعلم - لو لم أعرف ولم أبل أخلاقه - أن هذا الصفاء في تفكيره وتعبيره مع جموحه على المبتذل منهما، أمر يتصل أوثق اتصال بنفسه وخلقه، وأنا أعلم أن أثر أديب ما، إنما هو صورة لنفسه وخلقه، فلو لم يكن الصفاء والجموح على الابتذال من شمائله لما وجدناهما في أدبه.
وأكاد أكون فخورا بأدبه من حيث يدل على نفسه أكثر مما يدل على فنه، وأوضح ما يدل عليه منه الصفاء والاعتدال