شرح ابن عقيل - ابن عقيل الهمداني - ج ١ - الصفحة ٢٨١
يعني أنه إذا ورد من لسان العرب ما ظاهره أنه ولي " كان " وأخواتها معمول خبرها فأوله على أن في كان " ضميرا مستترا هو ضمير الشأن، وذلك نحو قوله:
67 - قنافذ هداجون حول بيوتهم بما كان إياهم عطيه عودا .
67 - البيت للفرزدق، من كلمة يهجو فيها جريرا وعبد القيس، وهي من النقائض بين جرير والفرزدق، وأولها قوله:
رأى عبد قيس خفقة شورت بها * يدا قابس ألوى بها ثم أخمدا اللغة: " قنافذ " جمع قنفذ، وهو بضمتين بينهما سكون، أو بضم القاف وسكون النون وفتح الفاء، وآخره ذال معجمة أو دال مهملة حيوان يضرب به المثل في السرى، فيقال: هو أسرى من القنفذ، وقالوا أيضا " أسرى من أنقد " وأنقد: اسم للقنفذ، ولا ينصرف ولا تدخله الألف واللام، كقولهم للأسد: أسامة، وللذئب: ذؤالة، قاله الميداني (1 / 239 الخيرية) ثم قال: " والقنفذ لا ينام الليل، بل يجول ليله أجمع " اه، ويقال في مثل آخر " بات فلا بليل أنقد " وفي مثل آخر " اجعلوا ليلكم ليل أنقد " وذكر مثله العسكري في جمهرة الأمثال (بهامش الميداني 2 / 7) " هداجون " جمع هداج وهو صيغة مبالغة من الهدج أو الهدجان، والهدجان بفتحات - ومثله الهدج - بفتح فسكون - مشية الشيخ، أو مشية فيها ارتعاش، وباب فعله ضرب، ويروى " قنافذ دراجون " والدراج: صيغة مبالغة أيضا من " درج الصبي والشيخ " - من باب دخل - إذا سار سيرا متقارب الخطو " عطية " هو أبو جرير.
المعنى: يريد وصفهم بأنهم خونة فجار، يشبهون القنافذ حيث يسيرون بالليل طلبا للسرقة أو للدعارة والفحشاء، وإنما السبب في ذلك تعويد أبيهم إياهم ذلك.
الاعراب: " قنافذ " خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم قنافذ، وأصله هم كالقنافذ، فحذف حرف التشبيه مبالغة " هداجون " صفة لقنافذ، مرفوع بالواو نيابة عن الضمة لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد " حول " ظرف مكان متعلق بهداجون، وحول مضاف، وبيوت من " بيوتهم " مضاف إليه، وبيوت مضاف والضمير مضاف إليه " بما " الباء حرف جر، وما: يحتمل أن تكون موصولا اسميا، والأحسن أن تكون موصولا حرفيا " كان " فعل ماض ناقص " إياهم " إيا:
مفعول مقدم على عامله، وهو عود، وستعرف ما فيه، وقوله " عطية " اسم كان " عودا " فعل ماض، مبني على الفتح لا محل له من الاعراب، والألف للاطلاق، والفاعل ضمير مستتر فيه جوازا تقديره هو يعود على عطية، وجملة الفعل والفاعل في محل نصب خبر " كان ".
وهذا الاعراب إنما هو بحسب الظاهر، وهو الذي يعرب الكوفيون البيت عليه ويستدلون به، وهو إعراب غير مرضي عند جمهرة علماء النحو من البصريين، وستعرف الاعراب المقبول عندهم عند بيان الاستشهاد بالبيت.
الشاهد فيه: قوله " بما كان إياهم عطية عودا " حيث إن ظاهره يوهم أن الشاعر قد قدم معمول خبر كان وهو " إياهم " على اسمها وهو " عطية " مع تأخير الخبر وهو جملة " عود " عن الاسم أيضا، فلزم أن يقع معمول الخبر بعد الفعل ويليه، هذا هو ظاهر البيت، والقول بجواز هذا الظاهر هو مذهب الكوفيين، وهم يعربون البيت على الوجه غير المرضي الذي ذكرناه في الاعراب، والبصريون يأبون ذلك ويمنعون أن يكون " عطية " اسم كان، ولهم في البيت ثلاثة توجيهات:
أحدها: وهو الذي ذكره الشارح العلامة تبعا للمصنف، أن اسم كان ضمير الشأن وقوله " عطية " مبتدأ، وجملة " عودا " في محل رفع خبر المبتدأ، وإياهم:
مفعول به لعود، وجملة المبتدأ وخبره في محل نصب خبر كان، فلم يتقدم معمول الخبر على الاسم لان اسم كان مضمر يلي العامل.
والتوجيه الثاني: أن " كان " في البيت زائدة، و " عطية عود " مبتدأ وخبر، وجملة المبتدأ والخبر لا محل لها من الاعراب صلة الموصول، وهو " ما "، أي بالذي عطية عودهموه.
والثالث: أن اسم " كان " ضمير مستتر يعود على " ما " الموصولة، وجملة عطية عود من المبتدأ والخبر في محل نصب خبر كان، وجملة كان ومعموليها لا محل لها من الاعراب صلة الموصول.
والعائد - على هذا التوجيه والذي قبله محذوف تقديره هنا: بما كان عطية عودهموه ومنهم من يقول: هذا البيت من الضرورات التي تباح للشاعر، ولا يجوز لأحد من المتكلمين أن يقيس في كلامه عليها.
قال المحققون من العلماء: والقول بالضرورة متعين في قول الشاعر، ولم نقف على اسمه:
باتت فؤادي ذات الخال سالبة فالعيش إن حم لي عيش من العجب فذات الخال: اسم بات، وسالبة: خبره، وفيه ضمير مستتر هو فاعله يعود على ذات الخال، وفؤادي: مفعول به مقدم على عامله الذي هو قوله سالبة، وزعموا أنه لا يمكن في هذا البيت أن يجري على إحدى التوجيهات السابقة، ومثله قول الآخر:
لئن كان سلمى الشيب بالصد مغريا لقد هون السلوان عنها التحلم فالشيب: اسم كان، ومغريا خبره، وفيه ضمير مستتر يعود على الشيب هو فاعله وسلمى مفعول به لمغريا تقدم على اسم كان، ولا تتأتى فيه التوجيهات السابقة.
ومن العلماء من خرج هذين البيتين تخريجا عجيبا، فزعم أن " فؤادي " منادى بحرف نداء محذوف، وكذلك " سلمى " وكأن الشاعر قد قال: باتت يا فؤادي ذات الخال سالبة إياك، ولئن كان يا سلمى الشيب مغريا إياك بالصد، وجملة النداء في البيتين لا محل لها معترضة بين العامل ومعموليه.