الحسن والقبح أمرين " عقليين " ثابتين بالعقل. وما أمر الشارع ونهيه في صددهما إلا لأن العقل يأمر بهما. فلا حاجة إذن لسؤال الشرع ابتداء. بل يسأل العقل. فعدم العلم بالنهي كاف للحل. ولا تحتاج الإباحة لدليل، وإنما يحتاج ادعاء عكسها إلى دليله. فالاختراعات الحديثة مباحة استنادا إلى ما ثبت شرعا من أن كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهى.
والجواز في التصرف مطلق لا يقيده إلا التثبت من حق الغير.
فالمعاملات، أية كانت، صحيحة ما لم تزاحم حقا عاما أو خاصا أو يوجد نص أو معنى يحرمها.
وفي كثير من الأحيان، يكون عمل الفقيه مجرد تحكيم النصوص بعضها على بعض. مثل قوله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقول الرسول (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وقاعدة (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) وهذه أمثال للأدلة الحاكمة على أدلة سواها.
فالعمل بها ليس تخصيصا للنص بالمصلحة، وإنما هو حكومة نص على نص.
أي رفع اليد عن الكتاب والسنة بدليل منهما - أيضا - مجعول في ظرف خاص يزاحم الدليل الآخر أو يحكم عليه.
والشيعة إذ يبنون فهمهم على أن الله يأمر بالفعل لمصلحة، وينهى عن الفعل لمفسدة، لا يعتبرون مخالفا للأمر والنهى من يوجد في حالة اضطرار، وإنما يشترطون أن تكون المخالفة على قدر الضرورة، وارتفاع المسوغ حالة انتهاء الاضطرار، أو عند تجاوز المقدار. يقول تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) و (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) و (يريد الله أن يخفف عنكم).
وبالانتفاع بهذه الرخص يظهر أن الاضطرار نسبي. بل يظهر أنه ليس إلا خيار، وفيه إرادة. والإجبار هو ما يعدم الاختيار بما يزيل من القدرة - وهي شرط التكليف.
فالمضطر في الواقع " يختار " الفعل لعامل خارجي أو داخلي (نفسي). كمن لا يملك إلا ثوبا واحدا يلبسه ليستره (ويختار) أن يبيعه ليأكل، إذ يؤثر العرى على الجوع إذا لم يقدر أن يواجه جوعه بطريق آخر.
* * *