الإمام جعفر الصادق (ع) - عبد الحليم الجندي - الصفحة ٢٣٥
ومع أن الحرب الكلامية والافتراءات الموجهة للرواة كانت ضروسا فقد وثق الأئمة الفقهاء والمحدثون - أعظم التوثيق - الإمام جعفر الصادق. وشرفوا بالرواية عنه. ووقفت المذاهب الأربعة موقف الإجلال له. فكان ذلك إعلانا من أهل العلم أن أئمة أهل البيت للجميع لا للشيعة وحدهم. وأن الحديث متى ثبت عنهم هو حديث جدهم صلى الله عليه وسلم:
كان يوسف بن أبي يوسف يروى عن أبيه عن أبي حنيفة عن " جعفر ابن محمد " عن سعيد بن جبير عن ابن عمر حديث رسول الله. وفي الوقت ذاته يروى عن أبيه عن أبي حنيفة عن إسحاق بن ثابت عن أبيه عن علي بن الحسين حديث رسول الله، مع أن علي بن الحسين (زين العابدين) لم ير جده - واللقاء من شروط البخاري - ويروى يوسف عن أبيه عن أبي حنيفة عن " جعفر بن محمد " حديث رسول الله - مع أن الصادق حفيد زين العابدين - فهذا أبو حنيفة ومن روى عنهم - كمثل مالك وغيره - يروون عن أئمة أهل البيت، ويأخذون بحديثهم عن رسول الله، مع أنهم لم يلقوه أو لم يكن بينهم وبين الرسول صحابي.
والكتب التي يقوم عليها الفقه الشيعي تروى كلها عن الإمام جعفر الصادق أو الأئمة المعصومين. يستوى في ذلك الكتب الأربعة الشهيرة وغيرها.
في هذه الأضواء نستطيع أن نفهم انقسام العلم بانقسام مصادره.
وانحسار هذا البحر من بحاره عن الجمهور، باقتصاره على الشيعة. ولا جرم كانت فيه كفاية لإنتاج دق الفقه وجله، بما فيه عن غزارة، وباعتماده على النقل والعقل معا. وبإقبال الشيعة - شأن الأقليات جميعها - على تعميق علومها، وتقوية شعوبها. وساعدهم انفتاح الفكر واجتهاد الرأي في تطهير وسطهم العلمي والاجتماعي ممن ينتسبون، أو ينسبهم الخصوم، إليهم، من الغلاة في علي بن أبي طالب (1). ثم تمييز علمهم من علم المخالفين الذين يتولون غير الإمام جعفر

(1) كان وجود غلاة في الشيعة فرصة للمغرضين، إذ نسبوا عمل الغلاة إلى الشيعة كلهم.
فأحدثوا بذلك أثرا كاذبا في أفهام الآخرين، بدعاوى هم منها براء، مثل أن الإمام هو الله ظهورا واتحادا. وهو غلو يبلغ الكفر. وأكثر المنسوبين للشيعة غلوا أتباع ابن سبأ وأبى الخطاب الأسدي الذين يؤلهون عليا والأئمة. وهؤلاء ليسوا مسلمين.
ولقد حرق على النار من ألهوه وتبرأ الصادق من أبى الخطاب الأسدي. وقتله جند أبى جعفر.
وكان ابن سبأ يهوديا من صنعاء أسلم وانطلق إلى الحجاز والبصرة والشام ومصر. المؤرخون الأولون كالطبري (210) والمؤرخان الشيعيان أبو خلف القمي (301) والنوبختي (310) يؤكدون وجوده، في حين يشكك في وجوده آخرون ممن جاءوا بعد ذلك.
كان ابن سبأ يحرض أبناء العشائر ضد عثمان. قائلا إن لعلي مكانا فوق الصحابة بل فوق سائر الخلق. ولما قتل على قال إنه سيرجع. وقد نفاه على إلى المدائن إذ كان يقول له (أنت أنت) ثم صار يقول (عجبا من الذين يكذبون رجوع محمد في حين يقولون إن عيسى يرجع) ويقول إن محمدا خاتم النبيين وعليا خاتم الأوصياء. ويقول إن عثمان ولى الخلافة بغير حق.
وقال البعض إن ابن سبأ دفع أبا ذر ليقول ما قال لعثمان. ولا شك أن ابن سبأ أقل من أن يرتفع إلى مستوى تحريض أبي ذر. وأن نسبة أثار ضخمة جدا لأراجيف ابن سبأ في محيط صغير جدا وزمان قصير جدا - ليس إلا وجه من تعليق الأوزار، التي ارتكبتها أجيال أفرخت فيها الفتن، على عاتق رجل لا قيمة له. والكثيرون من المؤرخين على أن ابن سبأ لم يلق أبا ذر.
وتعليق الأوزار هروب. وهو عيب قديم في المجتمعات التي تفقد صدق الرؤية، فتبري، نفسها - ظلما - من عيوبها، فتلقيها على الآخرين. وهو أيا كانت الحال غلو في تضخيم شأن ابن سبأ وأشباهه لتبغيض الشيعة إلى الآخرين. ولقد طالما أحدث هذا التبغيض من قوم لا يعلمون الحقائق آثاره في نفس قوم مخلصين. وفي ظلمات هذه الجهالات يتوارث المسلمون فرقة يفرضها عليهم من يفيدون لأنفسهم ومن يجهلون.
(٢٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 229 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 تقديم 3
2 الباب الأول ظهور الإسلام 11
3 ظهور الإسلام 13
4 الفصل الأول: أخو النبي صلى الله عليه و سلم 15
5 الفصل الثاني: أبو الشهداء 39
6 ريحانة النبي في كربلاء 51
7 الباب الثاني بين السلطان و الامام 65
8 الفصل الأول: بين السلطان و الامام 69
9 أهل البيت 71
10 بين أبناء على و بنى العباس 78
11 الفصل الثاني: الرجلان 95
12 الباب الثالث امام المسلمين 113
13 الفصل الأول: في المدينة المنورة 117
14 أهل المدينة 127
15 زين العابدين 134
16 الباقر 140
17 الفصل الثاني: امام المسلمين 145
18 مجالس العلم 153
19 التلاميذ الأئمة 158
20 كل العلوم 165
21 مع القرآن 172
22 مع أهل الكوفة و أبي حنيفة 178
23 المذهب الجعفري 185
24 الباب الرابع المدرسة الكبرى 193
25 الفصل الأول: المدرسة الكبرى 197
26 المصحف الخاص أو كتاب الأصول 199
27 مصحف فاطمة 200
28 التدوين 200
29 مشيخة العلماء 210
30 التلاميذ من الشيعة 217
31 الفصل الثاني الدرس الكبير 229
32 السنة 238
33 الإمامة 246
34 أمور خلافية في الفقه 259
35 الباب الخامس المنهج العلمي 275
36 الفصل الأول التجربة و الاستخلاص 279
37 الفصل الثاني في السياسة و الاجتماع 309
38 في الدولة و قواعدها 312
39 المجتمع الجعفري 325
40 في المجتمع و دعائمه 331
41 الاخوة 334
42 المرأة 338
43 العلم 339
44 الدعاء 341
45 الفصل الثالث المنهج الاقتصادي 343
46 العمل 347
47 المضطرب بما له و المترفق بيده 349
48 المال 357
49 العبادة و النفاق المال 358
50 كنز المال 364
51 الباب السادس في الرفيق الاعلى 367
52 عدالة السماء 375