مدارس قرطبة وغرناطة في القرون الوسطى ما يدلل على صحة هذه الحقيقة.
والخلاصة أن الإمام الصادق أبا عبد الله هو نموذج لإنسانية المعرفة في العصر الإسلامي الذهبي، بل بداية رائعة له. هيأت له أسباب هذه الإمامة أنه بالإضافة إلى ذكائه الوقاد وجهوده البالغة في البحث والتأمل والدراسة، كان من أولئك الملهمين الذين لا يجود التاريخي الإنساني بهم إلا في فترات متباعدة، يضاف إلى هذا أيضا أنه ثمرة من ثمرات أهل البيت النبوي الشريف ممن كانوا في الذروة من قادة العرب وأئمتهم.
والحق أن إمامته العلمية لم تكن مقصورة على أتباعه كما ذكرت آنفا.
فقد رأينا في مجموعة الأخبار الواردة في الفصول السابقة أن عمرو بن عبيد، وهو من رجال السنة، قد أتاه يسأله عن أمر دينه ويستفتيه في شؤون مختلفة من الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة، وهو خبر طويل أوردته في المقدمة بنصه. كما أثبتت الأخبار التي أصبحت لها صفة التواتر أن أبا حنيفة النعمان وهو أحد مذاهب السنة الأربعة قد لازمه مدة سنتين من حياته الدراسية. وأن سفيان الثوري، وهو صاحب مذهب من مذاهب السنة قد لازمه وناقشه وحاوره وكان منه كما يكون التلميذ من أستاذه. وفي الأخبار السابقة ما يشير إلى بعض هذه المحاورات.
ولئن كان سواه من علماء العصر العباسي الذين تميزوا بالثقافة الإنسانية الشاملة قد برز في علم دون آخر فإن الإمام الصادق لم يكن في علم من هذه العلوم مقصرا به عن الآخر أبدا. لقد كانت الركائب تحمل إليه، طلاب الحكمة، وأصحاب الفقه، والفلسفة، وعلم الكلام، والعلوم الطبيعية،