الفصول المهمة في معرفة الأئمة - ابن الصباغ - ج ١ - الصفحة ١١٤
فعظمته الروم وملوكها وشرفوه، وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم. وقد كان يعرف أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات جبب وأرديه. في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوهم. فصلوا إلى المشرق. قال: فكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والسيد الأيهم، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة. تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
وكذلك النصرانية، فهم يحتجون في قولهم هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمة والأبرص والأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا. وذلك كله بأمر الله وليجعله آية للناس. ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله، ويقولون: لم يكن له أب يعلم. وقد تكلم في المهد بشيء لم يكن أحد من بني آدم قبله. ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة، بقول الله تعالى: فعلنا وأمرنا، وخلقنا وقضينا، فيقولون لو كان واحدا ما قال إلا: فعلت وأمرت، وخلقت وقضيت، ولكنه هو وعيسى ومريم. تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون و الجاحدون علوا كبيرا، وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القرآن.
فلما كلمة الحبران قال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أسلما، قالا: قد أسلمنا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنكما لم تسلما فأسلما. قالا: بلى قد أسلمنا قبلك، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كذبتما، يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير. قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.
ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها، إلى أن قال:
فلما أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه. ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال:
والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أن محمدا لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا. ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا فإنكم عندنا رضا.
قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين. قال: فكان عمر بن الخطاب (رض) يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرا، فلما صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني....
ثم ذكر ابن كثير ما رواه البخاري في هذا الموضوع، وما رواه البيهقي في دلائل النبوة وقال: فإن فيه فوائد كثيرة، وفيه غرابة، وفيه مناسبة لهذا المقام، قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل. قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده، قال يونس - وكان نصرانيا فأسلم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد. وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد. فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب، والسلام. فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا...
ثم ذكر ابن كثير أيضا رواية ابن مردويه فقال: وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا أحمد بن داود المكي، حدثنا بشر بن مهران، حدثنا محمد بن دينار عن داود ابن أبي هند عن الشعبي عن جابر قال: قدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة. فواعداه على أن يلاعناه الغداة. قال: فغدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ بيد علي وفاطمة و الحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي بعثني بالحق لو قالا: لا، لأمطر عليهم الوادي نارا.
قال جابر: وفيهم نزلت: (ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم)، قال جابر: أنفسنا وأنفسكم: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وعلي بن أبي طالب، وأبناءنا: الحسن والحسين، ونساءنا: فاطمة.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى عن أحمد بن محمد الأزهري عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند به بمعناه. ثم قال: صحيح على شرط مسلم، و لم يخرجاه. هكذا. (تفسير ابن كثير: ١ / ٣٧٦).
أما الزمخشري فقال في تفسيره: قوله تعالى: (فمن حآجك) من النصارى (فيه) في عيسى (منم بعد ما جآءك من العلم) أي من البينات الموجبة للعلم (فقل تعالوا) هلموا، والمراد المجيء بالرأي والعزم، كما نقول: تعال نفكر في هذه المسألة (ندع أبنآءنا وأبنآءكم) أي يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة - إلى أن قال: - وروي أنهم لما دعاهم إلى المباهلة، قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا