الفصول المهمة في معرفة الأئمة - ابن الصباغ - ج ١ - الصفحة ١١٤
رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، وقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن قد فعلتم لتهلكن، فإن أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
فأتى رسول الله وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه و علي خلفها، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا. فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم، رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فإذ أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم. فأبوا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فإني أناجزكم، فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة. ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا، ولا ترددنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة: ألف في صفر وألف في رجب.
وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا. ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر، لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا. (الكشاف:
1 / 268 ط البلاغة قم).
وأما الطبري فقال في تفسيره: عن ابن عباس في قوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق) [آل عمران: 62]: إن الذي قلنا في عيسى هو الحق (وما من إله إلا الله...) الآية. فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل و أمره إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله وأنه لا ولد له و لا صاحبة وأن عيسى عبده ورسوله وأبوا إلا الجدل والخصومة، أن يدعوهم إلى الملاعنة، ففعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما فعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انخزلوا وامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة. كالذي حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن عامر قال: فأمر بملاعنتهم بقوله: (فمن حآجك فيه منم بعد ما جآءك من العلم)... الآية، فتواعدوا أن يلاعنوه، وواعدوه الغد. فانطلقوا إلى السيد و العاقب و كانا أعقلهم، فتابعاهم فانطلوا إلى رجل منهم عاقل. فذكروا له ما فارقوا عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما صنعتم؟ و ندمهم وقال لهم: إن كان نبيا ثم دعا عليكم لا يغضبه الله فيكم أبدا، ولئن كان ملكا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدا، قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا؟ فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه فقولوا: نعوذ بالله، فإن دعاكم أيضا فقولوا له: نعوذ بالله، ولعله أن يعفيكم من ذلك. فلما غدوا غدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محتضنا حسنا آخذا بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس، فقالوا: نعوذ بالله، ثم دعاهم، فقالوا: نعوذ بالله مرارا. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): فإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما المسلمين، كما قال الله عزوجل: فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون. [مضمون آية 29 من سورة التوبة].
قال: قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدي الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفا في رجب وألفا في صفر، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قد أتاني البشير بهلكة أهل نجران، حتى الطير على الشجر - أو العصافير على الشجر - لو تموا على الملاعنة.
وقال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا عيسى بن فرقد عن أبي الجارود عن زيد بن علي في قوله تعالى: (تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم)... الآية، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
وقال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط عن السدي: (فمن حآجك فيه منم بعد ما جآءك من العلم)... الآية. فأخذ - يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بيد الحسن والحسين وفاطمة.
وقال لعلي: اتبعنا. فخرج معهم، فلم يخرج يومئذ النصارى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس دعوة النبي كغيرها، فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو خرجوا لاحترقوا. فصالحوه على صلح، على أن له عليهم ثمانين ألفا. فما عجزت الدراهم ففي العروض، الحلة بأربعين. وعلى أن له عليهم ثلاثا وثلاثين درعا، وثلاثا و ثلاثين بعيرا، وأربعة و ثلاثين فرسا غازية، كل سنة. وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ضامن لها حتى نؤديها إليهم. (تفسير الطبري: 3 / 297 ط دار الكتب العلمية - بيروت).
وقال العلامة السيد محمد الموسوي الحائري البحراني في كتابه " خلفاء الرسول " في قوله تعالى:
(فمن حآجك فيه منم بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين): وذلك لظهور الولاية المسندة إلى الله سبحانه في الولاية العامة المطلقة، وظهور تساوي المتعاطفات في المعنى والحكم.
وجه الدلالة: اتفق المسلمون أجمعون على أن هذه الآية الكريمة نزلت في وفد نصارى نجران.
وأجمعوا أيضا على أن المراد من لفظة (أنفسنا) غير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لأن الإنسان لا يدعو نفسه حقيقة، كما لا يكلف نفسه حقيقة، فلابد من تعدد الداعي والمدعو وعدم اتحادهما. وتسالموا أيضا على أن ذلك الغير هو: علي بن أبي طالب ليس غير، فتكون الآية دالة بوضوح على أن نفس علي هي نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا يجوز على هذا التقرير أن تكون نفس علي عين نفس الرسول لبداهة بطلانه. بل المراد نفس علي مثل نفس الرسول نظيره، و ما لهذا المعنى من ألفاظ، وذلك يقتضي تساويهما في جميع الصفات على وجه العموم ليصح التماثل. نترك الأخذ بهذا العموم في وصف النبوة، لأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نبيا، وعلي ليس بنبي على الإجماع والضرورة من الدين، وكذلك نترك الأخذ به في حق الفضل، لقيام الضرورة على أن النبي أفضل من علي. فيبقي الباقي تحت العموم، فهما مثلان في ما عدا هذين الأمرين بلا امتراء. فمن ذلك ما ثبت بإجماع المسلمين أن النبي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين