إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٩ - الصفحة ٤
وقد اتفقوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمر ثلاث عمر، صده المشركون في الأولى عن البيت، فعاد من الحديبية ثم اعتمر من قابل، وكانت عمرة القضاء، واعتمر أيضا من الجعرانة، بعد فتح مكة - شرفها الله - [قال] ابن إسحاق: واعتمر عمرة رابعة مع حجته.
خرج الحاكم من حديث داود بن عبد الرحمن قال: سمعت عمرو بن دينار يحدث عن عكرمة [عن] ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء من قابل، والثالثة من الجعرانة، والرابعة مع حجته. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. [ولم يخرجاه] (1).
وأما عمرة الحديبية (2) فقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان، وشوالا - يعني سنة ست - وخرج من ذي القعدة معتمرا،

(1) (المستدرك): 3 / 52، كتاب المغازي والسرايا، حديث رقم (4372)، وقال الحافظ الذهبي في (التلخيص): صحيح. وما بين الحاصرتين زيادة للسياق من (المستدرك).
(2) الحديبية: بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت فسمي المكان بها. قال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم.
ووقع في رواية ابن إسحاق في (المغازي) عن الزهري: خرج صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا. ووقع عند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وسلم خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة. في بضع عشر مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره، وأحرم منها بعمرة، وبعث عينا له من خزاعة، يدعى ناجية، يأتيه بخبر قريش، كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدي، كما صرح بذلك ابن إسحاق وغيره. وأما الذي بعثه عينا لخبر قريش، فاسمه بسر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق، وهو بضم الموحدة، وسكون المهملة على الصحيح.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بغدير الأشطاط [اسم موضع] أتاه عينه قال: إن قريشا جمعوا جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادوك، عن البيت، ومانعوك، فقال:
أشيروا علي أيها الناس، أترون أن أميل إلى عيالهم، وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله عز وجل قد قطع عينا من المشركين، إلا وتركناهم محروبين.
فقال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتال أحد توجه له، فمن صدنا عنه قاتلناه، قال: امضوا على اسم الله، وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبلغ المشركين خروجه صلى الله عليه وسلم فأجمعوا رأيهم على صده عن مكة وعسكروا ببلدح [موضع خارج مكة].
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية فقال: من يخرجنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقا وعرا، فخرجوا منها بعد أن شق عليهم، وأفضوا إلى أرض سهلة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: استغفروا الله ففعلوا، فقال: والذي نفسي بيده إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فامتنعوا [إشارة إلى قوله تعالى (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) البقرة: [58 - 59].
قال ابن إسحاق عن الزهري في حديثه، فقال: اسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض، في طريق تخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية. وثنية المرار - بكسر الميم وتخفيف الراء هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية - وزعم الداودي أنها الثنية التي أسفل مكة، وهو وهم.
وسمي ابن سعد الذي سلك بهم: حمزة بن عمرو الأسلمي. وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فقال من رجل يأخذ بنا عن يمين المحجة نحو سيف البحر، لعلنا نطوي مسلحة القوم، وذلك من الليل، فنزل رجل من دابته، فذكر القصة.
فلما فرغوا من القضية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي فساقه المسلمون - يعني إلى جهة الحرم - حتى قام إليه المشركون من قريش فحبسوه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنحر.
فما قام رجل كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطاء الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ ذلك لهم لأنه كان في زمان وقوع النسخ.
ويحتمل أن يكونوا قد ألهتهم صورة الحال، فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، من ظهور قوتهم، واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه - الأمور جميعها، كما سيأتي في كلام أم سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنها، وليس فيه حجة لمن أثبت أن الأمر للفور، ولا لمن نفاه، ولا لمن قال: إن الأمر للوجوب لا للندب، لما يطرق القصة من الاحتمال.
فاشتد ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، فدخل على أم سلمة فقال: هلك المسلمون! أمرتهم أن يحلقوا فلم يفعلوا، قال: فجلى الله تبارك وتعالى عنهم يومئذ بأم سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
قالت أم سلمة رضي الله وتبارك وتعالى عنها: يا نبي الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم، فإنهم قد دخلوا في أمر عظيم لما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح، ورجوعهم بغير فتح، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال.
وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، إذ لم يبق بعد ذلك غاية تنتظر.
وفيه فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول، وفيه جواز مشاورة المرأة الفاضلة، وفضل أم سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنها ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة، كذا قال: وقد استدرك بعضهم عليه بنت شعيب في أمر موسى عليه السلام.
نحر صلى الله عليه وسلم هديه، وكان سبعين بدنة، وكان فيها جمل لأبي جهل، في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين، وكان صلى الله عليه وسلم غنمه منه في غزوة بدر، ودعا حالقه خراش بن أمية بن الفضل
(٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « 1 2 3 4 4 8 9 10 11 12 13 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 فصل في ذكر عمرات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها بعد هجرته 3
2 عمرة القضاء 17
3 عمرة الجعرانة 22
4 فصل في ذكر حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة 25
5 فصل في ذكر من حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم 38
6 فأما ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جلت قدرته 38
7 وأما الأحاديث الإلهية 46
8 وأما الحكمة وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم 48
9 وأما مجيء الجبال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 51
10 وأما إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة 52
11 وأما الملك الذي نزل بتصويب الحباب 52
12 وأما اجتماعه بالأنبياء ورؤيتهم في ليله الإسراء 53
13 وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم عليه السلام 53
14 وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تميم الدارس 62
15 وأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة 68
16 وأما حديثه صلى الله عليه وسلم عن أبي كبشة 70
17 فصل في ذكر من حديث وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه 70
18 إسلام الجن وإنذارهم 70
19 وأما الصحابة رضوان الله عليهم 81
20 أما المهاجرون 85
21 ذكر هجرة الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة 87
22 وأما السابقون الأولون 88
23 وأما الذين أسلموا إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار الأرقم 91
24 وأما المستضعفون الذين عذبوا في الله 105
25 وأما المهاجرون إلى الحبشة 115
26 وأما من أسلم قبل الفتح 117
27 وأما الذين شهدوا بدرا وبيعة الرضوان 121
28 وأما رفقاؤه النجباء 128
29 وأما أهل الفتيا من أصحابه صلى الله عليه وسلم 130
30 فصل في ذكر أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم 169
31 فصل في ذكر نزول الأوس والخزرج بيثرب 171
32 فصل في ذكر بطون الأوس والخزرج 175
33 فصل في ذكر ما أكرم الله تعالى به الأوس والخزرج 178
34 أول من لقيه من الأوس سويد بن الصامت 184
35 ثم لقى صلى الله عليه وسلم بعد لقاء سويد بن الصامت فتية من بني عبد الأشهل 185
36 وكان من خبر يوم بعاث 187
37 فصل في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهجرته إلى المدينة 193
38 فصل في ذكر مواساة الأنصار المهاجرين بأموالهم لما قدموا عليهم المدينة 204
39 فصل في ذكر من بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الأنصار وغيرهم القرآن ويفقهم في الدين 206
40 عقوبة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 209
41 فصل في التنبيه على شرف مقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم 221
42 وأما وصاياه صلى الله عليه وسلم 222
43 فصل في ذكر أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم 223
44 فأما اعتذاره عن التخلف 223
45 فصل في ذكر من أستخلفه رسول اله صلى الله عليه وسلم على المدينة في غيبته عنها في غزو، أو حج، أو عمرة 226
46 فصل في ذكر من استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيوشه عند عودته صلى الله عليه وسلم 228
47 فصل في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرعب 237
48 فصل في ذكر شورة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرب وذكر من رجع إلى رأيه 240
49 فصل في ذكر ما كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا 267
50 فصل في ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها 268
51 فصل في وقت إغارة رسول الله صلى الله عليه وسلم 269
52 فصل في ذكر الوقت الذي يقاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم 271
53 فصل في ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين في محاربتهم 272
54 فصل في ذكر شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه 275
55 فصل في ذكر المغازي التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم 277
56 فصل في ذكر ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة 279
57 فصل في ذكر من جعله النبي صلى الله عليه وسلم على مغانم حروبه 290
58 فصل في ذكر من كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم 301
59 فصل في ذكر من حدا برسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره 302
60 فصل في ذكر وزير رسول الله صلى الله عليه وسلم 318
61 فصل في ذكر صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم 322
62 فصل في ذكر خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يختم به 335
63 فصل في ذكر ما كان يختم به رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه 337
64 فصل في ذكر صاحب خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم 338
65 فصل في ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة الجيش وقسمة العطاء فيهم وعرضهم وعرفائهم 339
66 فصل في ذكر ما أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأرضية ونحوه 358
67 فصل في ذكر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية والخراج 365
68 فصل في ذكر عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية 375
69 فصل في ذكر عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزكاة 376
70 فصل في ذكر الصدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم 380
71 فصل في ذكر الخارص على عهد رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم 381
72 فصل في ذكر من ولى السوق في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف هذه الولاية اليوم بالحسبة، ومتوليها له المحتسب 386